كيف يمكن تفسير سلسلة الهزائم التى تتعرض لها الأمة منذ قرون , وتحديدا لماذا ينهزم العرب الأكثر عددا أمام الصهاينة الأقل كثيرا ( لم نقل المسلمين واليهود !!)..!؟ ولماذا أستمر ويستمر هذا حتى الآن .

لا أزعم هنا أنني أمتلك الأجابات القاطعة, بقدر ما أدعوكم لقراءة التفاصيل والغوص في ما بعد الأبواب الموصدة والنوافذ المغلقة .. والبحث في شبكة المفاصل سعيا للمعرفة ( أو بعضها على الأقل ) فهي وحدها فيما نعرف من يملك مفاتيح ما أوصد وأغلق وتلغز وتطلسم..

ثمة أحداث جرت قبل نحو أربعة قرون على شواطئ السواحل الشرقية لما يعرف الآن بدولة الولايات المتحدة الأمريكية , تكاد تتماثل تماما مع ما يحدث في فلسطين منذ منتصف النصف الأول من القرن العشرين .. ففي أواسط القرن السابع عشر تقريبا كان الهنود الحمر يعدون مائة مليون نسمة  تقريبا , تطوق قبائلهم التى لا تعرف الأمراض العضوية مثلما لا تعرف الكذب والحسد والحقد, معسكرات هشة وضعيفة لآلاآف من المهاجرين الذين قذفت بهم أيرلندا وهولندا وأنجلترا في أولى موجات الهجرة ( غير الشرعية فعلا ) .. كانت ممالك وحضارات أمة الهنود الحمر في الأزتيك بالمكسيك والأنكا فى البيرو والمايا الخ تمتد شمالا وجنوبا في فيوض روحية وحضارية يقف العالم حاليا مدهوشا من جلالها .. وشأنها المرموق.

بعد نحو قرنين, وتحديدا في أول أحصاء رسمي يقوم به البيض في 1929 وصلت أعداد القادمين فقط من هولندا وبريطانيا الى ثلاثين مليونا مقابل تناقص حاد في تعداد الهنود وصل الى ( فقط ) ثلاثمائة ألف !!

لن يكون مفيدا سرد الحكايات التى تفنذ أكاذيب الحواة في هوليود عن تلك الأمة العظيمة, ولكن لابد للمتفحص ( ان وجد ) كما اسلفنا من أدراك طبيعة التفاصيل لبناء أجاباته عن أسئلة لم تعد محيرة .. مجموعات  صارت تتناسل من المؤرخين الأمريكيين أكدوا فى حوليات موثقة أن العدد الأجمالي للهنود الحمر الذين فتك بهم البيض خلال ثلاثة قرون يفوق الستين مليونا !!

ويرصد هولاء أن الهنود الحمر لم يكونوا عدائيين أو متوحشين كما تصورهم روايات السينما الأمريكية, ولكنهم كانوا أقرب للود وروح الصداقة وعدم الممانعة فى التعايش.

تسجل تلك الحوليات الأقتراح الذي تقدم به في 1829 الرئيس الأمريكي الجديد ( آندرو جاكسون ), وهو ضابط سابق في الجيش , وطلب فيه من الكونغرس تخصيص منطقة غرب المسيسيبي للهنود الحمر دون غيرهم.. وهو ما تم فعلا على الأوراق وأختامها وملفاتها , لكن الواقع أظهر أن البيض المهاجرين لم يحترموا ذلك القرار, وتابعوا مضايقة الهنود ونزع مبرمج ( مقونن) لاراضيهم وقضم أطرافها زحفا , ولم تمض سوى تسعة عشر عاما أخرى حتى أعلن عن أكتشاف الذهب في أراضي كاليفورنيا, وهي من ضمن مناطق الأقليم المخصص للهنود غرب المسيسيبي, فقام البيض بأجتياح شامل لتلك المناطق والسيطرة عليها بعد حرب أبادة .

كان الغضب في أوساط الهنود الحمر من تحصيل الحاصل,فأعلنوا الأحتجاج والرفض .. وهذا بالضبط ما كان ينتظره الجيش الأمريكي لبدء عملية وصفها مؤرخ أمريكي من أصول أيرلندية بأنها بمثابة التدشين الفعلي لمصطلح التطهير العرقي .. لابد أن ذلك المؤرخ أطلع على الأمر العسكري الذي أصدره جنرالات الجيش في 1862 والقاضي بذبح الرجال والأطفال من الذكور الهنود اينما وجدوا وأسترقاق النساء , يتحدث الكابتن ( نيكولاي هوت ) عن معركة شارك فيها ضد قبائل ( النافاهو) فيقول : كان النافاهو رجالا ونساءا وأطفالا وعجائز يركضون في جميع الأتجاهات , بينما كان الجنود يلهبون جماجمهم بالرصاص ويطعنون أجسادهم النحيلة بالحراب .. رأيت جنديا _ يضيف الكابتن نيكولاي هوت _ في شهادته أمام لجنة أستماع داخل وحدته العسكرية .. رايت جنديا يغتال طفلين وأمرأة فصرخت فيه أن يتوقف , فنظر الي ساخرا قبل أن يجهز عليهم .

الميجور ( أرثر موريسون ) تحدث في شهادته عن الكيفية التى تم بها حصر وأغتيال زعماء الهنود من قبائل ( الميسكاليرو) فقال أن الكابتن ( جيمس جرايدون ) أقنعهم بأنه صديق لهم وقدم اليهم مؤونة كبيرة من لحم البقر المقدد والدقيق وكميات كبيرة من الخمر الذي دعائم لأحتساءه نخبا للصداقة .. وبعد نحو ثلاث ساعات من الوليمة الخمرية أعطى أوامره لجنوده المدججين بالبنادق أفراغ مخازنها في أجساد الزعماء وهم يترنحون في آمان وطمأنينة .

في مطلع القرن العشرين كان اليهود الذين أضطهدتهم أوروبا وروسيا القيصرية يتدفقون بتخطيط (( مع الأعتذار للذين لا يؤمنون بنظرية المؤامرة )) من بؤر صهيونيةمدعومة من رساميل أوروبية الى فلسطين ,ليقيموا معسكرات زراعية ( كيبوتسات), حيث لم يجد العمال الفلسطينيون غضاضة في العمل بها دون أية ريبة أو ضغائن .

وبدأ التوسع على حساب أراض كان يمتلكها أتراك ومقيمين من غير الفلسطينيين , تم بيعها لليهود تحت ضغوط مختلفة , واستمر ذلك حتى نهاية الحرب الكونية الأولى بأنكسار أمبرطورية آل عثمان وهزيمة تركيا ووضع فلسطين تحت الأنتداب البريطاني الذي لم يتأخر كثيرا في أصدار وعد بلفور ..

بدأت الحكاية هنا .. بالضبط مثلما بدأت هناك !!

فالرقعة التى حددها قرار التقسيم (.....) كانت مطوقة بعرب فلسطين من أهل البلاد الذين واصلوا حرث أراضيهم وزراعتها بالطريقة القديمة نفسها , في حين حول الصهاينة مناطق أحتلالهم الى تجمعات أنتاجية تعتمد احدث وسائل التقنية المتوفرة حينها .. وشكل التدفق المالي من يهود أوروبا وأمريكا خللا آخر فى معادلة الصراع الذي تحول قبل النكبة في 15/5/1948 الى حرب خفية تدعمها بريطانيا لترحيل وتهجير الفلسطينيين عن مناطقهم ومدنهم وقراهم وحقولهم , ودفعهم تحت الأغراء والتلويح بالتهديد للجؤ الى مناطق في قطاع غزة والضفة الغربية .. وفي حالة الرفض نفذ الصهاينة جريمتهم المروعة ضد سكان دير ياسين تحت شعار ..: ترحل أو تذبح !

تابعوا _ أذا شئتم بطبيعة الحال _ قراءة التفاصيل السابقة بوضع أسماء وتواريخ جديدة ,لتكتشفوا أن زعماء الحركة الصهيونية كانوا ينفذون تفاصيل حرب الأحتلال ضد الهنود الخمر بدقة شبه متناهية .

هذه دعوة لقراءة مؤشر الأمية في الوطن العربي وفي الكيان الصهيوني وكذا فى مخصصات البحث العلمي هنا وهناك .. وفي الأنتاج الزراعي والصناعي والتقني والعسكري والمعلوماتي الخ الخ.

القراءة تقودنا بالضرورة أذا تحرر العقل الى فك الطلاسم والأحاجي, وايقاد الشموع للخروج من نفق الجهالة والتخلف .. سعيا فقط لأستعادة الكرامة المستباحة.. والحق فى الحياة أحرارا.

 

Mahmoud Albosifi
[email protected]