بريطانيا العظمى، التي أهدت العالم الديمقراطية البرلمانية منذ أكثر من ثلاثة قرون، مستعدة للتخلي عنها بكل يسر بعد أن حكمت العالم بأسمها قرونا متواصلة. فغزوها للعراق منذ  16 سنة (2003) وأفغانستان (2001) وليبيا (2011) والهند منذ أكثر من 160 سنة (1858) كان في جانب منه بأسم القيم الديمقراطية وممارستها الصحيحة على الطريقة البريطانية الي جانب رغبة بريطانية جامحة في دفع شعوبا كثيرة الي التقدم والرقي والتحضّر! فتبا لها كيف تتخلى عن الديمقراطية وكيف تم ذلك؟
ببساطة الآرقام تقول أن الذين أنتخبوا رئيس الوزراء الحالي بورس جونسن عددهم 92153 من أعضاء حزب المحافظين اي أقل من ثلاثة أعشار الناخبين الأنجليز المسجلين الذين بلغ عددهم قرابة 47 مليون ناخب! والرجل الآن هو رئيس الوزراء الرسمي ويشغل منصبه بمباركة الملكة بل وبتعيين منها كونها صاحبة السيادة في ام الديمقراطيات "العظمى" سابقا!
الخطير في الأمر أن أنتخاب، النسخة البريطانية من ترمب ــ بورس جونسن ــ يأتي في لحظة مفصلية في تاريخ العجوز "العظمى" سابقا أي خروج بريطانيا من الأتحاد الأوربي أي أبعاد أكثر من 66 مليون بريطاني من الأتحاد الذي دفعوا المليارات من أجل بناءه. القرار السعبي بالخروج ما كان الشعب البريطاني ليتخده في الأستفتاء لولا حملات التضليل، ويا للمفارقة، التي كان جونسن نفسه أحد أكبر قادتها والمؤثرين فيها مما أدى الي تضليل جزء كبير من المساكين البريطانيين ليختاروا الخروج من الأتحاد وليصبحوا في متاهة لم تفلح ثلاثة سنوات كاملة في حل عقدها والوصول الي مخرج آمن منها! كل الطرق للخروج من الأتحاد اليوم شائكة ومعقدة ويزيدها الألمان والفرنسيين تعقيدا مع كل صباح، وما تعيين السياسي الفرنسي ميشل برنير كرئيس فريق التفاوض الأوربي، الا رغبة فرنسا ألمانية في تلقين بريطانيا درسا لن تنساه وتجعل منها عبرة لغيرها من الأعضاء أن هم فكروا في الخروج من المشروع الأوربي الأكبر في التاريخ!
الديمقراطية، كما علمتنا "العظمى" سابقا، هي الأختيار الحر من قبل المواطن الحر المطلع وغير المضلل. والاطلاع هنا يعني المعرفة اي أن يكون الناخب قادراً على اتخاد قرار يمثل رغبته بعد أن يكون قد توفرت له المعلومات الحقيقية التي تساعده على ذلك الأختيار الحر في مناخ ديمقراطي. أن "المعرفة" بالعملية السياسية وحقيقة الخيارات في الديمقراطية التي تعلمناها، في مدرسة "العظمى"، سابقا هي أساس الديمقراطية ولبها ولكي يحدث ذلك لابد من توفير تلك المعرفة حتى لمن لا يريدها عبر الأعلام لكي يستطيع أن يتخد قرارا واعيا والا سيكون نادما على النتيجة. والندم ليس خيارا ديمقراطيا أبدا لأنه في الغالب نتيجة سوء تقدير أو فهما ناقصا للعملية السياسية وهذا نقيض الديمقراطية !
ولكن الحملة التي سبقت الأستفتاء في عام 2016 قدمت معلومات مضللة عمدا ومزورة للحقائق، وأن ظهرت لماعة وجذابة ومثيرة في بعض اللحظات،  نتج عنها أن الأغلبية صوتوا للخروج من الأتحاد بناءا عليها وهم اليوم، أو بعضهم، نادمون! هذا عمل غير ديمقراطي بتاتا وكان يفترض بحكومة ديفد كامرون يومها أن تلغي نتائج الأستفتاء ــ وهي غير ملزمة به قانونيا وتشريعيا ــ على كل حال. لو فعلت لكانت حجتها قوية وهي التضليل ولوفرت علينا هذا الدرس الديمقراطي القاسي في الدكتاتورية في ثوبها البريطاني الزاهي!
نحن المتفرجون من دول العالم "الأقل" ديمقراطية، وممن عانت شعوبهم من رغبة بريطانيا في تصدير الديمقراطية الينا، لا يملئ قلوبنا الا الشماتة في "العظمى" سابقا ونحن نراها تستجدى دولا هامشية في الأتحاد الأوربي، مثل مالطا، لكي تخفف من عبء خروجها من الأتحاد، وفي ذات الوقت نعبر عن أرتيابنا في كل ما تصدره الينا "العطمى" سابقا حتى وان كان علبة حليب! وفي نفس الوقت لاتزيدنا الدراما، والتي تتوالى حلقاتها في لندن وبروكسل، الا أحساسا بالخديعة التي أوقعتنا فيها "العظمى" سابقا وجعلتنا نصفق لديمقراطيتها بل ويطالب بعضنا بها أيضا!

كاتب و أكاديمي ليبي 


الآراء المنشورة ملزمة للكاتب و لا تعبر عن سياسة البوابة