بغضّ النظر عن الدعوة التي وجهها السيد ابو مازن للشيخ راشد الغنوشي للتوسط لدى حركة حماس من أجل مواصلة الحوار حول الاتفاقات المبرمة قبل العدوان الاسرائيلي، فان اللافت للنظر، هو بلا شك هذه المكانة الدبلوماسية التي أصبح يحظى بها رئيس حركة النهضة في الاوساط الدولية، خاصة وأنه لا يمثل الان نفسه فقط أو حركته، كما كان في سنوات المنفى، بل أصبح الرجل الحاكم الفعلي في تونس، حتى وان كان من وراء ستار الحوار وحواجز التوافق وغيرها من الشعارات.

فالرجل الذي حظي خلال الاسبوعين الفارطين فقط بالصعود وفي المرتبة الثالثة ايضا الى أكبر مجمّع لرجال الدين، ونعني به مؤتمر الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الذي انعقد مؤخرا في اسطنبول، والذي يُعتبر محرار السياسة القطرية/التركية في المنطقة والعالم، كما يُعتبر الان رأس الحربة في الحرب على سوريا وفي دعم الجماعات المتطرفة بالفتاوى والمال والسلاح والغطاء السياسي.

هذا الاتحاد لا يضيف جديدا ربما لمكانة الشيخ راشد الغنوشي العالمية، كمفكر اسلامي ورئيس حزب اسلامي أيضا، وله عديد المؤلفات في مجال الفلسفة الاسلامية وله مناشط أخرى أيضا في المجال الجمعياتي والدعوي والخيري، وغيرها من مجالات، تموقع فيها الشيخ راشد وأتقن البروز، وعرف طريق النجومية في عديد المؤتمرات وألاف المحاضرات والندوات.

لكن أهم منشط للرجل حاليا هو ترؤّسه لحركة النهضة، وقيادته لحزب حكم خلال السنتين الفارطتين في تونس، وله تأثير قوي الى حد الان، بل يكاد يكون تأثيرا مطلقا على الحكومة وأجهزة الدولة والرئاسة والمجلس التأسيسي ايضا.

وهي مكاسب تبوّئه بلا شك مكانة سياسية رفيعة المستوى، تجعل من عديد الاطراف الدولية والاقليمية، تستدعيه وتعدّل أوتارها على سياسته ان لزم الامر، وتأخذ رايه في عديد المسائل المغاربية والعربية، وهذا من حقّه طبعا، بل وربما من واجبه كزعيم أكبر حزب حاليا في بلاد تشهد عديد التقلبات وتمر بفترات مخاض، يُعتبر موقف حزبه معدّلا نوعا ما، ومعدّلا عليه في كثير من الاحيان.

لكن غير الطبيعي في المسألة، هو أن يصبح الشيخ راشد فوق الاعراف الدبلوماسية المعمول بها في كافة البلدان، وأن يتحول الى ممثل للدولة التونسية في عديد الاحيان.

وحتى وسائل الاعلام المسموعة والمرئية والمقروءة كثيرا ما عنونت أخبارها بلقاءات الشيخ مع سفراء أو مسؤولين رفيعين من دول أجنبية، بـ"بحث العلاقات بين البلدين الشقيقين وسُبُل تطويرها..".

وهي عبارات لا تُستعمل الا لمسؤولي الدولة، الموظفون السامون الذين من مهامهم بحث العلاقات وتطويرها او حتى قطعها مع مسؤولي البلدان الاخرى، لتبقى مهمة رؤساء الاحزاب السياسية، حتى وان كانت في الحُكم، هي "بحث سُبل التعاون بين الحزبين وتبادل الأراء حول أهم القضايا...".

وهذا التمازج والخلط المقصود بين المهام الحزبية ومهام الدولة، يبدو انه يروق كثيرا للشيخ راشد الذي لا يتوانى في تصريحاته عن الاعراب عن بالغ سوروه باستقباله من قبل الرئيس الفلاني او الوزير او السفير، ويتحدث مباشرة باسم تونس، متجاوزا في ذلك رؤساء ثلاثة، مرابطين في قصورهم، قد يكون هو من له الفضل في تعيينهم، لكن بالتأكيد ليس له الحق في تجاوزهم.

والشيخ راشد، الذي يعرف جيدا أنه غير محبوب في باريس وروما مثلا، وأن علاقاته غير مستقرة مع لندن وواشنطن، وتخضع لرغبات العاصمتين وأهوائهما، لا لمصالحه هو وطموحاته. ويعرف ايضا أن الجزائر تنظر اليه بحذر شديد، وطرابلس لا تحبّه حتى وان اضطرت للتعويل عليه في بعض الوساطات، التي تبدو فاشلة الى حد الان. كما أنه من الرجال المطلوبين ربّما في دمشق وطهران وبغداد ودبي والقاهرة بالخصوص، وغير مرحّب به في الرياض وابو ظبي وحتى في صنعاء، لكن له حظوة كبرى في اسطنبول والدوحة وغزّة.

فهو كزعيم حزب سياسي اختار أن يقدّم نفسه على أنه وطني تونسي، كان من المفروض أن يكون متعاملا مع جميع القوى على قدم المساواة، خاصة وأن حزبه اعتلى سدّة الحكم في أول انتخابات بعد الثورة.

لكن ما يظهر وما يخفى أيضا من توجّهات الشيخ راشد الدولية، هو أنه يبدو قد اختار التعامل مع العواصم العربية والأجنبية على أساس أنه امتداد لتنظيم إسلامي عالمي، فأتقن سياسة المحاور، واختار الاصطفاف إلى جانب محور دون آخر، وربما دون الآخرين. وهو اصطفاف حرمه من أسبقية الوسيط النزيه، وحرم تونس من أفضلية الشريك المحايد.

بل لقد حوّلت سياساته الخارجية، ورهانه المستمر على محور الدوحة/اسطنبول، تونس من بلد كان يمكن أن يكون محايدا ونزيها مع كل الأشقاء والأصدقاء إلى بلد معادي للبعض وتابع للبعض الآخر.

وهي تماما نفس السياسات التي كبّلت تونس ومنعتها من حرية المبادرة والحركة في الموضوع الليبي، رغم أسبقية الجغرافيا وعامل الانتماء، فوقوف الشيخ راشد الى جانب بعض الجماعات دون غيرها في طرابلس وخاصة في مصراطة وبنغازي ودرنة، قد حرم الحكومة التونسية وباقي الاطراف الفاعلة من دور الوسيط الذي كان يمكن ان يكون فاعلا في تخفيف حدة التوتر بين الفرقاء الليبيين وربما في وضع حد لهذه الحرب الدموية القاسية.

وبرغم من كل التسريبات وحتى التصريحات التي تتحدث عن وساطة الشيخ راشد بين الفرقاء الليبيين، الا أن النتيجة الى حد الان لا شيء، ويبدو أنها لن تنجح أيضا طالما يتعامل الرجل باصطفاف ايديولوجي مع أطراف حولها ألف سؤال وسؤال في ليبيا وحتى في العالم وفي المنطقة العربية، وخصوصا حول علاقتها وتمويلها للارهاب. وهو اصطفاف ايديولوجي لا ندري لماذا يصرّ عليه الغنوشي رغم ان مكانته كزعيم سياسي وطني تحتّم عليه التعامل مع كل الاطراف اذا كان يريد لمساعي وساطته أن تنجح.

لكن مناصرته الدائمة لجماعات بلحاج ومصراطة والصلابي وبوسهمين، انعكست ايضا على مستوى علاقات تونس مع الشقيقة الغربية الجزائر، التي تنظر بريبة إلى هذه الجماعات، وبتوجّس من علاقة الغنوشي معها، وهو ما قد يكون السبب المباشر للاستدعاء الأخير إلى قصر المرادية، الذي ابتدأ بالبساط الأحمر ولا يعلم أحد كيف انتهى.

ولا يشكك أحد في فهم الشيخ راشد للرسالة الجزائرية التي لم تنتظر مغادرته للقصر، وباشرت بتشغيل المقصلة على أكبر رقبة في الاعناق التاريخية للحكم في الجزائر، الا أننا نحن الذين لم نفهم بعد ما اذا كان الشيخ سيأخذ بنصيحة بوتفليقة ومن ورائه، أم سيظل رهين المحبسين: اسطنبول والدوحة؟ وهو خيار بلا شك صعب جدااااا على رجل تعلّم أن يعيش حياته بالرقص فوق حبل التناقضات، وأن يمارس لعبة "الاستغماية" مع كثير من الانظمة والقوى، وأن يشكر ويذمّ في نفس الوقت ولنفس الطرف، وأن يصرّح ثم يتراجع في تصريحاته، التي كثيرا ما يقول: أخرجت من سياقها، بل كثيرا ما يرفع قضايا بالصحفي الذي أخذ منه التصريح ويغرّمه نقدا ان لزم الامر، وخاصة ان غضب طرف نافذ في احدى بقاع الارض، من تلك التصريحات.

وهذه السياسة التي أنقذت رقبة الزعيم التاريخي للاتجاه الاسلامي في تونس وفي جزء من العالم، قد تكون ايضا حبل نجاة لرئيس حزب حركة النهضة الان وهنا، لكنها بالتأكيد لن تكون السياسة المرجوّة لبلد يتلمّس طريقه وسط غابة من التطورات السريعة والدراماتيكية في المنطقة والعالم، ولن تكون ايضا مخرجا لتونس من أزماتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والامنية والتي تحتاج الى صداقة دول قوية وفاعلة، للدولة التونسية الفتية، ولا تحتاج لعلاقات أنظمة أو تنظيمات بزعيم حزب سياسي منحاز ايديولوجيا الى جهة تهاوت أسهمها في البورصات العالمية فجأة بعد ازدهار، وفترة ربح خصبة، فيما عُرف بالربيع العربي.