حقيقة لا يمكن تجاهلها هي ظهور الشعب الليبي فاعلاً في الثورة كقوة مادية ذات حجم .. مع ملاحظة وجود التباس في مفهوم الشعب . وهذا المفهوم في اعتقادي ــ يتضمن كل ما ضم مجتمع من أهله ــ وهؤلاء منهم من يدافع عن الثورة ومنهم من يعرقلها .. لهذا أنحصر معنى الشعب في أحيان كثيرة في مستضعفيه فقط .. فيقال إن الثورة كانت شعبية ودون تحديد ومعرفة للشعبي فيها.

 

           ولكن من هذا الشعبي المعني هنا .. خرج الشباب فوجدت في حالتنا نحن الليبيون ثنائية الشعب والشباب مضافاً إليها القوة الداعمة – الطبقة الوسطى – وفي مرحلة ما بعض من الجيش والفاعل المستتر القبيلة .. كل ذلك يحدث في ليبيا الآن تداخلا في الفاعلين .. لذلك يبدو من الصعب وعلى وجه الخصوص معرفة الفاعل الاجتماعي في تركيبة حركة الثورة   ..

            والمفهوم الأكثر التباسا مفهوم الشباب الفاعل في الثورة وقد يناقض هذا المفهوم شعبية الفعل الثوري الذي يقابله عدم التمسك بفئة عمرية بعينها حتى يظهر المفهوم - شبابية الفعل - لأن من شارك في الفعل هو الشعب جميعاً  .. حتى وإن ظهر الصف الأول من الشباب فقط يدفعه الصف الثاني من بين الشباب والشيوخ يدعمه من طعن في السن أو أقرب .

            غير أن قوافل الشهداء الذين فقدوا أرواحهم كان هدفهم إسقاط النظام وإقامة دولة يكون فيها  سيادة القانون والمؤسسات غير مؤدلجة الانتماء أو التوجهات والرؤية .. فيها ليبيا أولاً بلا تبعية ولا سيطرة لكائن من كان، فشبابية الثورة لحظة قيامها دون تحديد لزمن اللحظة وشعاراتها التي رفعتها كان  الشعب  فيها يريد إسقاط النظام .

            النخب في الشعب كانت فاعلاً بالرغم مما آل إليه حالها منذ انقلاب سبتمبر إلى حدود الثورة في فبراير الذي كان مفزعاً ومنه ما كان فيه تواطؤ مبتذل مع نظام قمعي وفاسد ولكن في تصوري ، إن تكوين النخبة وأطوارها وأدوارها أوسع من ظرفيتها .

            فظرفية التقييم ليس لها أن تهمش أو أن تهمل ما بذلته النخبة عبر العقود من جهد نضالي في الفكر والسياسة والتراكم المعرفي النخبوي عبر العقود الأربعة، ولا يمكن اعتبار هذا التراكم محصوراً في مجال أو تصنيف بعينه .. فإذا كانت حركة المعارضة في الخارج هي من عكس نضال كل من تمكن من الخروج من البلاد ..      ففي الداخل كان هناك فكر نقدي وإبداع أدبي وفني ودرس جامعي معمق واعٍ بالتاريخ ومفسر للظواهر هذا أيضاً مما تراكم ليصبح من جملة عوامل موضوعية قيام الثورة .

            فالنخب تتوالد وتتجدد وقد ينسى بعضها بعضا لكن محصلة هذا تظهر في تراكم معرفي في الوعي الجمعي .. والثورة الليبية قد تحتاج الآن إلى خطاب تنبيهي نخبوي له من التماسك ما يضمن انتشاره وفاعليته وإقناعه واستمراره على مستوى المواطن الذي كان في الأصل شعب الثورة .

            هذا الخطاب يكون جماعيا متعدد الروافد في صياغته ومن مهام تلك الفئة النخبوية التي لها القدرة على تحويل " المادة الخام " إلى منظومة تستوعب عمق تجربة الثورية الليبية وتكسبها بعداً فكرياً ومعرفياً من السهل التأمل فيها وتناقلها وبناء مرجعيتها من قبل تلك الفئة التي لا تنزع إلى حب السلطة والقيادة وتكون مكانتها مهما كانت تسمياتها المختلفة "نخبة فكرية ليبية".

            أما سؤال القطيعة مع سيطرة زمن  مفهوم الطاعة الذي ساد عبر العقود الماضية بدعوى الخوف من الفتنة نتيجة الفراغ وسيادة مفهوم - ستون سنة تحت سلطان جائر أفضل من ليلة بلا سلطان – المفهوم الذي سيطر على عقول العامة وتناقلته عبر القرون ثقافة لم تستطع إلا أن تكون تابعة ولم تستطع أن تستوعب معنى القطيعة وتستبطن ماضياً لا ينقطع عزف على وتره نظام القذافي  وحاول كثيراً الارتداد وإدخال زمنه في زمن الجهاد ، لذلك كان من مؤيدي الثنائيات المشهورة الفارغة ، الماضي والحاضر ، التراث والحداثة ، الأصالة والمعاصرة ، الدين والعلم ، الهوية والذوبان ، والغريب أن في هذا التخلف الثقافي مخرجات في الخصوصية رفعها هو وحده فقط  وكائنه الوحيد في هذا العالم .

            في الحالة الليبية من الضروري تفعيل مفهوم القطيعة مع الماضي السياسي نهائياً وابتكار مفهوم آخر مختلف تماماً ولا مانع أن يكون هذا المفهوم وفق خصوصية ليبية خالصة ...