ظلت الأهتمامات الداخلية والخاصة تحديدا بخدمات التأمين الصحي والتقاعدي والضرائب هي التى تحظى بنصيب الأسد فى البرامج الأنتخابية للمرشحين الأمريكيين للوصول الى البيت الأبيض بينما لا تحصل الأهتمامات الأخرى من سياسة خارجية أو تسلح أو أمن الا على قدر بسيط فى أجندة أي من المرشحين أو الناخبين على حد سواء.

نجحت المؤسسة الحاكمة فى الولايات المتحدة الأمريكية ( المجمع الصناعي العسكري ) فى حصر أهتمامات الناخب الأمريكي ضمن أطار الشأن الداخلي فقط ومقايضته كل أربعة أعوام بوعود خدماتية مقابل صوته الأنتخابي .. حدث أستثناء وحيد على هذه القاعدة أثناء الضغط على الراي العام بضرورة المشاركة فى الحرب العالمية الثانية وهي قصة طويلة أخرى تتشابك فيها وتتضافر المؤامرة والتواطؤ مع حزمة هائلة من المصالح .

    الاعلام والبنوك وهما من الأدوات التى تمتلكها قبضة المجمع الحاكم .. يقودان الحملات الأنتخابية وفق منظومة معقدة من الأساليب التى لا تدمع الا فى تركيزها الهائل على تفاصيل الأهتمامات الداخلية للناخب وتكبيله بأنشغالات بعيدة عن المجالات الحقيقية التى ينفق بها ذلك المجمع ضرائب الناخبين وموارد بلادهم .

     في العام 1980 وصل ممثل سينمائي ثانوي ومخبر للمباحث الفدرالية يدعى رونالد ريغان الى السلطة على رأس فريق من غلاة المحافظين اليمينيين, يرفع شعار أستعادة هيبة أمريكا التى أهدرها مزارع الفستق جيمي كارتر الذي يوصف بالمسيحي الطيب على جبال كابول وقندهار وتورا بورا .. وصحراء طبس الأيرانية.

     كان الكيان الصهيوني هو البند الاساسي والدائم على أجندة البرامج الأنتخابية للمرشحين الأمريكيين دعما وتمويلا ومساندة وصل الى التحالف الأستراتيجي الذي لم توقعه واشنطن حتى مع حلفائها التاريخيين فى غرب أوروبا وذلك لا يشي الا بأن المجمع الحاكم يرغب فى تأكيد أن وجود اسؤائيل وأمنها هو شأن أمريكي داخلي محض .

     فى العام 1948 حاول بعض كبار موظفي الخارجية الأمريكية اقناع الرئيس هاري ترومان بعدم أو على الأقل تأجيل الأعتراف بالكيان الصهيوني تحسبا للغضب العربي وأرتباط مصالح امريكا مع هذا الغضب الخ الخ .. لكن ترومان ( صاحب الضربة النووية ) رفض الأستمرار فى مناقشة ذرائعهم بعد ان وجه اليهم سؤالا يقول : كم هو عدد الناخبين من أصول عربية فى أمريكا مقارنة مع تزايد النفوذ اليهودي الواضح فى امريكا ؟

     الدعوة الى نقل السفارة الأمريكية لدى الكيان الصهيوني من تل ابيب الى القدس , كانت هي الشفرة التى رجحت كفة المرشح الجمهوري جورج بوش الأبن في أنتخابات 2000 .. والدعوة التى أطلقها بعد نهاية ولايته الأولى لألغاء حق العودة كانت هي الرافعة التى اوصلته مجددا لمقعده فى البيت الأبيض

     الأهتمامات الداخلية انحصرت في برامج المرشحين الأمريكيين منذ مجئ ريغان الكارثي في الوعود بنظام ضرائبي أكثر مرونة , بينما أنتزع برنامج السياسة الخارجية المحمول دائما على زيادة الأنفاق العسكري ليس على كوكب الأرض فحسب ولكم ضمن مشروع خرافي لعسكرة الفضاء ,على النصيب الأوفر فى البرامج الأنتخابية.

مرة أخرى يتولى الاعلام والبنوك العمل الترويجي لتغيير الأولويات والضخ الهائل لأنصاف الحقائق .. حيث يظهر الكيان الصهيوني الغاصب دائما فى خانة الضحية التى لا تستحق الشفقة بقدر الحاجة للدعم والمساندة والتمويل والتحالف فى مواجهة أقوام منفرة , متوحشة ,مستبدة ,تقبض على حصة هائلة من طاقة العالم.

     الأنتاج السينمائي الأمريكي كان كفيلا لوحده في تخذير الأمريكان تجاه أمبروطورية الشر ( الأتحاد السوفياتي ) , فيما كان الأنفاق الأكبر فيما يسمى مكافحة الشيوعية يتم خارجيا وتحت مسميات متعددة ومتحركة.

     تعاظم ذلك الأنفاق وأخذ أشكالا جديدة بعد أنهيار الأتحاد السوفياتي, وتحول أمريكا الى قطب أوحد في عالم يغلي بالأضطرابات وأحتدام الصراعات وتفريخ الأزمات .. وشكل تضاعف ميزانيات البنتاغون عقب تفكك الأتحاد السوفياتي وأصطفاف روسيا فى طابور المتسولين أول المؤشرات على النوايا التى يخطط  المجمع الحاكم لأرتكابها من موقع القطب الأوحد .. بدأت بخطوات سريعة في الدفع بتوحيد ألمانيا لأنهاكها وتأخير تفعيل الأتحاد الأوروبي .. وتشييع جثمان الأتحاد اليوغسلافي وتحويله الى دويلات لا تكاد تكف عن التقاتل والتذابح المروع .. واشعال حرب الخليج الأولى للسيطرة على الطاقة والأعلان عن بدء الأنسحاب من أفغانستان التى تتدافع بقوة صوب القرون الوسطى .

    بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 وسقوط أسطورة الوهم, أصبح بازار الأنتخابات الأمريكية يقوم ويقعد على مسطرة واحدة تقول أن امريكا هي الشرطي والقاضي والجلاد, وأن الأهتمامات الخارجية لابد لها من السيطرة الكاملة على الناخب وهو يودع صوته في صناديق الأقتراع لحماية سلالة الثالوث الذي أستوطن أمريكا قبل نحو خمسة قرون : الراهب . التاجر , الجندي ,وأسس أكبر مقبرة فى التاريخ لأكثر من ستين مليون هندي أحمر .

    صارت الأنتخابات بعد العام 1980 التى جاءت بالممثل المغمور رئيسا لأكبر وأقوى دولة فى العالم .بازارا ينفق فيه كل مرشح مئات الملايين من الدولارات وهو يعد ناخبيه بالمزيد من الجثث والمقابر .

     لدى المجمع الحاكم في أمريكا رؤية في قراءة التاريخ, عيبها الوحيد هو تجاهلها المريع للتاريخ ذاته , والأستناد فقط للذات التى يقول لنا التاريخ في جميع شواهده أنها تتضخم الى حد الأختناق والأنفجار .

    يتجاهل المرشحون الأمريكان لموقع الرئاسة ولعضوية الكونغرس بمجلسيه الشيوخ والنواب الذين يتدافعون الآن للصراخ تأييدا للأطروحات الصهيونية بألغاء حق العودة للفلسطينيين , وبحق أسرائيل فى أن تكون دولة يهودية .. يتجاهلون أن حق العودة للأجئين الفلسطينيين الذين شردهم وابائهم الغزاة الصهاينة وسيطروا على بيوتهم ومزراعهم وبياراتهم وحقولهم , حق لا يمتلكه أحد ..! لا يملكه أوباما مثلما لا يملكه محمود عباس ولا هنية ولا البرغوثي ولا الدويك ولا فتح ولا حماس ولا الجهاد والشعبية والدبمقراطية والقيادة العامة.. هذا الحق النسغي لا تمتلكه الجامعة العربية بالتحديد ولا تمتلكه منظمة العالم الأسلامى أو منظمة عدم الأنحياز.. ولذلك لن تجد من يعطيك أياه .. حق العودة رعاكم الله يمتلكه حصريا أبناء فلسطين على بكرة ابيهم وأمهم الى يوم الدين , يوم يرث الله الأرض ومن عليها , وهذا يعنى أيضا أن الفلسطينيين الآن هم أيضا لا يمتلكون هذا الحق وحدهم دون الأجيال الفلسطينية النائمة فى أصلابهم .. الأجيال اللاحقة والمتلاحقة الى يوم القيامة .. حق لا يمنح الأنابة لأحد عن أحد .

يتجاهل المرشحون الأمريكان الذين بدأت التسريبات بأسمائهم للأنتخابات المقبلة والمعروف عنهم أنحيازهم المطلق لجماعات الضغط الصهيونية وفى مقدمتها ايباك أن حق العودة ليس بضاعة يمكن أن تباع وتشترى ويمكن بالتالي تعليقها فى بازارات الأنتخابات .. فالبضاعة سلعة بوسع فرد أو جماعة أمتلاكها والتصرف فيها .. وحق العودة  مشكلة لا حل لها الا بعودة اللأجئين الى بيوتهم ومزارعهم وحقولهم ومدارسهم وجوامعهم وكنائسهم ومراعي ذكرياتهم وأحلامهم . كما أقرت بذلك الأديان والشرائع والمواثيق والمعاهدات والأتفاقيات .. الكيان الصهيوني الذي يفرخ الأزمات( مسرحية الخطف , المستعمرات فى الضفة ) للضغط على السلطة الوطنية يرغب فقط فى أنتزاع الأعتراف بيهوديته وبالغاء حق العودة .. هذا الكيان مازال هو الرقم واحد فى سلم أولويات الصداع الأنتخابي فى امريكا بأعتباره شأنا فى صميم الداخل الأمريكي ..

     الأصوات داخل أمريكا التى ترفض هذا التوجه مازالت صغيرة وهامسة وخائفة .. لكن أعدادها وفق آخر التقديرات تتزايد وتتوزع .. ثمة فى أمريكا الآن أصوات تعلق ( رغم التعتيم ) أن على دافعي الضرائب التوقف عن مساندة الغزاة , ليس فقط لمجرد كونهم سفاحين قتلة ومؤسس أصيل للأرهاب والعنف والعنصرية, ولكن لأن دعمهم يتعارض حقا مع مصالح أمريكا .

     تقول بعض تلك الأصوات الخفيضة حتى الآن أن أحداث 11/9/2001 ربما تكون الحلقة الأولى لما يمكن أن تتعرض له الولايات المتحدة الأمريكية على أرضها من مخاطر  مباشرة أضافة الى التهديد المحتمل دائما لمصالحها فى الخارج .. تتعرض هذه الأصوات خاصة وسط هرج البازارات الى حزمة من التهم أولها معاداة السامية وليس أخرها التشويه الشخصي والفبركة الخ الخ .. الجاليات العربية فى أمريكا مطوقة كأوطانها بالأنقسامات .. ولذلك مازال سؤال الرئيس ترومان قبل ستين عاما عن دورهم ونفوذهم قائما حتى الساعة. .. الجاليات العربية فى أمريكا تدخل البازارات الأنتخابية .. السوق الضخم .. من أبواب المتفرجين , حتى وهم يمتلكون تذاكر تسمح لهم بالغناء , والرقص , .. أو العويل!

 

Mahmoud Albosifi
[email protected]