-1-

تحيا الشعوب على أرضها التي ولدت عليها،وحيثما فتحت عينها على الشمس أوّل مرّة، واقتاتت من خبز تلك الارض ، وخبرت فيها الزرع والضرع ، ولم يكن الإنسان يطلب أكثر من "الإقامة على الأرض" (على حدّ عبارة بابلو نيرودا) 

وكانت نسبة الأفراد الذين لا يقرّ لهم قرار تتشكّل من أفراد معدودين يُحفَظون ولا يُقاس عليهم مثل ابي العتاهية في قوله :

طلبتُ المستقرَّ بكلِّ أرضٍ *** فلم أرَ لي بأرضٍ مستقرَّا

أو الشاعر الصعلوك الشنفرى وقد قّرّ قراره أن يعتزل قومه ليستبدلهم بالوحوش فخاطبهم :

وَ لِي دونكُمْ أهلونَ : سِيدٌ عَمَلّٓسٌ وأرْقَطُ زُهلولٍ وعرفاءُ جيْأٓلُ 

أي الحيوانات التالية : ذئب خبيث، ونمر أملس، وضبع طويلة العرف. 

 

-2-

يهاجر الفردُ لأسباب مثل البحث عن هواء جديد وفرصة توسيع رزق أو تحصيل علميّ أو هروب من عقاب أو فضيحة أو تجاهل أو ضيق أو تبرّم .

والهجرة أيضاً هي إحساس الكائن الحيّ أن وراء بلاده بلادًا أخرى، وأنّ بإمكانه ارتيادَ آفاق جديدة لا بد أن تُزار ( على رأي الامام الشافعي) : 

ما في المقامِ لذي عقلٍ وذي أدبِ ** مِنْ رَاحَة ٍ فَدعِ الأَوْطَانَ واغْتَرِبِ

سافر تجِدْ عوضاً عمَّن تفارقهُ *** وَانْصِبْ فَإنَّ لَذِيذَ الْعَيْشِ فِي النَّصَبِ

وهكذا ، فإنّ ما يستشعره الانسانُ من شوق الى الترحال ، يعكس بحثه الدؤوب عن العالم الذي يغلي ويمور حواليْه، ولهذا يشدّ الفتى الرحالَ ضيقًا بالبلاد الأمّ فكأَنّهُ يبحث عن البلدان الخالات والعمّات . 

 

-3-

الهجرة رغبة تخصّ الشعوب ، أيضاً ، في لحظات حاسمة ومتأكدة ومربوطة مباشرة بأسباب الحياة ، لا بنزوات الشعراء او الفلاسفة أو أهل الخلق والإبداع ... 

إنّ الشعوب لا تسافر مثل الطيور أو الحيوانات في مواسم هجراتها الموقوتة ، وهي لا تختار السفر أو الهجرة إلاّ في صورة "ضيق الارض " .

إنّ ضيق الأرض ليس مسالة مزاج ، إنّه أمر موضوعي وَ مَوْضِعيّ ، تفرضه أسباب ثقيلة مثل الحروب والغزو والتهجير والمجاعة والعطش والطاعون والطوفان والزلازل ،وهكذا ينطلق البحث عن الأمن، والمحافظة على النوع ( وهنا يتشابه الانسان مع الحيوان المهاجر ) واستنشاق الهواء الذي يجعل التنفسَ طبيعيا وممكناً والحياةَ مستطابةً وأكثر ضيافة واتساعاً ، إنّه بحثٌ عن مكان بديلٍ حين لا يبقى غير ممرّ أخير (على رأي محمود درويش ):

"تَضِيقُ بِنَا الأرْضُ. تَحْشُرُنَا فِي المَمَرِّ الأَخِيرِ, فَنَخْلعُ أَعْضَاءَنَا كَيْ نَمُرَّ" 

 

-4-

إذا كان انتقال الأفراد يحدث دون ضجيج ، فإنّ الشعوب لا تتنقل من بلد الى بلد ، إلاّ اذا "حُمَّتً الحاجات " (على رأي الشنفرى ) ، وتداعت الأسباب لتجعل الرحيل خيارًا وقرارًا واستعمارًا :

جيران السلاح 

-----------

وهذا حدث مع الاستيطان مثلما هو الحال في حرب الإبادة العرقية التي قام بها الجنس الأبيض ضد الهنود الحمر لتعمير القارة الامريكية الجديدة، أو ما قام به الاستعمار الانقليزي في جنوب افريقيا لتوطين شعب ابيض ،ومثلما فعلت الفرق العنصرية الصهيونية في استجلاب شعب لا عنوان له غير التيه اليهودي عبر كل العصور وتوطينه على حساب شعب فلسطين ، فروّعت فرقُ الإرهاب الصهيونيّ حياةَ الشعب الفلسطيني الآمن وحولته الى جحيم ، وكان النزوح ، وكان على هذا الشعب المحتلة أرضه أن يبحث عن الحياة خارج الأرض الاولى ، و بدأ الفلسطينيّ يولد خارج فلسطين في المنافي وفوق مواضع من الكرة الأرضية ، وهو يمنّي النفس بالعودة إلى وطن " لم يجدْ ختْمَهُ في جواز السفر "( على حدّ عبارة درويش) ، ويردّد ما قاله أحمد شوقي قي منفاه : 

"قد يهون العمر إلا ساعةً *** وتهون الأرض إلا موضعا 

إنّها عمليات زرع شعبي أو توطين ،وتخريطٍ جديد لهوية السكان تتمّ تحت عناوين كثيرة : استعمار ، او استثمار او اللقاء على ارض الميعاد .

نحن أمام حالات غريبة ، تتمثل في شعوب لا تنزل ضيفةً على شعوب أخرى اضطرارًا بل ظلما واستعمارًا ، ولا تعتني الشعوبُ الزاحفةُ بما يٰلْصَقُ بها من نعوت : طفيلية ، بغيضة ، او ثقيلة الظل : ألمْ يكتبْ توفيقٌ الحكيم عن الاحتلالَ الانقليزي مسرحيته ( الضيف الثقيل ). ! 

 

-5- 

ولكن ، تحتاج الشعوب إلى بعضها في ساعة الضيق ،وساعات الضيق متلوّنة ، فهي الفوضى التي تستحيل فيها الحياة إلا على العصابات التي تشنّ حربًا على الذين لا حيلة لهم غير أن يهجّوا من ديارهم ويستنجدوا بأوّل بوابة حدود مع الجيران يدفعونها دفعا دون إذن ،وهم يعتبرونها منفذًا ولا مجير غير الشعوب الجارة :

جيران السلام 

------------

تزحف الشعوب ضيفةً على الشعوب ، وهي مدركة ما معنى : أن يكون الشعب ضيفًا على شعب جارٍ ، فقد استقبل شعب تونس بعض الشعب الجزائري أيّام الكفاح ضدالاستعمارالفرنسي ، وفتحت تونس ارضها منطلقا للتصدّي لهذا العدو الغاشم .

وفي أيام حرب الحلفاء بقيادة أمريكا على نظام صدام حسين ، كان الشعب الأردني يستقبل العراقيين الهاربين من نار الحياة في العراق ، وظل الأردن محلّ ضيافة للشعب السوري، ولبنان أيضاً كان ملاذا للفلسطينيين و صار ملاذًا للسوريين الهاربين بالطفولة من مناطق العيش المستحيل تحت القصف والذبح . 

وفي أيام الانتفاضة الليبية الاخيرة ضد نظام معمّر القذافي ، وصل عدد اللاجئين من الشعوب العاملة في ليبيا الى ما يقارب نصف مليون لاجىء في الخيام وغيرها ، وهاهو الشعب الليبي ينزل ضيفا على الشعب التونسي ليصل إلى حدود المليونيْن بعد أن انتشر السلاح في كل بيت في ليبيا وصارت قطعة السلاح متوفرة عند المواطن العادي والإرهابي على حد سواء ، ويحدث هذا في في حالة غياب تامّ للأمن والأمان وحضور صارخ للرعب في كل قلب وتوزّع قبائل الشعب "الجماهيريّ " الليبيّ إلى ميلشيات متضاربة المصالح والتحالفات . 

 

-6-

تتفاعل الشعوبُ الضيفةُ مع الشعوب المضيفة، فهي لا تأتي لاجئة بأجسادها وكأنها سائحة عادية ، ولكن هذه الشعوب تحرص على أن تكون وفيّةً لتقاليدها في الطعام والكلام واللباس والغناء ، تتشبث بهويتها ما استطاعت الى ذلك سبيلا ، فالضيفة تقترب من صاحبة البيت الأصلي اقترابا يصل الى اختلاط الدم عبر المصاهرة ، فالشعوب تحتمل الشعوب كما يحتمل الجارُ جارَه ويتآخى الهمُّ مع الهمِّ وهو يردّد مكرهًا أو صابرًا أو مقتنعًا أو ثائرًا :

الجارُ للجارَ وإنْ جارَ . 

 

-7-

الملاحظ هو أنّ بعض قيادات الشعوب تسعى الى تشغيل النعرات العصبية و إشعال الفتنة بين الشعوب الجارة ، فتأتي خطاباتها وتصريحاتها خرقاء إزاء الشعوب المستضيفة ، كأن يتّهم القائدُ شعوبا مجاورةً اتهاما صريحًا بالطمع في ثروة الشعب الملتجىء الضيف ، ومن حسن الحظّ أن مثل هذه الخطابات لا تجد صدًى في نفوس الجماهير ، فالشعوب تعرف بعضها ، وتطمع في بعضها البعض ، و لكنّ ما تعرفه الشعوب حقّا هو :

طمَعُ القادة في صوت الشعب ... في الانتخابات القادمة . 

* عن موقع "24.ae"