اِنتهَت إِلى غَيْر رَجعَة الحرْبان العالميَّتان المباشرتان، اِنْتصَرتْ فِيهمَا دُوَل الحلفاء مع تَغيُّر مَواضِع بعْضهم بَينُهما كمَا حدث لِإيطالْيَا ، والْيَوْم بَرزَت حُرُوب " الوكالة " اَلتِي تَتخِذ أَسالِيب وأشْكَال مُختلفَة . وَلَعلنَا نَتَذكَّر أَنَّه أَثنَاء الحرْب الباردة أَنفَق الاتِّحاد السُّوفْيتيُّ الملْيارات مِن العملات الصَّعْبة على مُساعدات عَسكرِية تمَّ ضَخهَا لِمصْلَحة حُلَفائِه مِن الأفارقة، لَكِن اِنهِيار " الشُّيوعيَّة " فِي أَوائِل تِسْعينيَّات القرْن الماضي اُضْطُرت معه رُوسْيَا إِلى التَّراجع عن دوْرهَا الواسع على السَّاحة العالميَّة، غَيْر أَنَّه بَعْد ذَلِك اِسْتكَان "الدُّبُّ "الرُّوسيُّ لِفتْرة طَوِيلَة، فَدخَل فِي سُبَات عميق فِي نِطَاق إِقْليم التَّنْدرَا قَارِس البرودة، لَكنَّه حَافَظ على لِياقَته، لِيظْهر مِن جديد بَيْن أَدغَال أفْريقْيَا ذات اَلمُناخ الاسْتوائيِّ المخْتلف، وَالذِي على مَا يَبدُو قد خَففَت مِن وَطأَة تأْثيره مَا تَتَميَّز بِه القارَّة مِن مَوارِد طَبيعِية وَبشرِية تَتَفتَّح لَهَا شَهيَّة " الدُّبِّ " الرُّوسيِّ، وَمِن قِبَله " ذِئْب اَلقُيوط " الأميريكيَّ، فِي حَالَة تَخوُّف أو مُنَافسَة لِلْاثْنيْنِ معًا مِن حَجْم تَوغُّل المفْترس الاقْتصاديِّ " البانْدَا " الصِّينيِّ . 

الأمْر لَيْس بِالْعسير على الفهْم أو بِالْخَفيِّ أيْضًا، لِأنَّ طَلاسِمه سَهلَة التَّفْسير، فأميركَا تَجِد صُعُوبَة بَالِغة فِي التَّعامل مع مُعْضِلة تَمدُّد النُّفوذ الرُّوسيِّ فِي القارَّة السَّمْراء مُرورًا بِشمالهَا اللِّيبيِّ اَلذِي صار أَشبَه بِحلْبة لِصراع الثِّيران، ومهْمَا كَانَت مِساحة ذَلِك التَّمَدُّد، مُقَارنَة مثلاً بِالنُّفوذ الصِّينيِّ، فأميركَا لَا تُخْفِي اِنْزعاجهَا اَلشدِيد جِدًّا مِن تَغلغُل الدُّبِّ الرُّوسيِّ اَلذِي يُهدِّد مصالحهَا فِي أفْريقْيَا، وَرُبمَا يُؤدِّي لَاحقًا إِلى اِختِلال تأْثيرهَا فِي كِفَّة التَّوازن اَلدوْلِي. إنَ أَمرِيكا التى جاهرتْ بِالْعداء لِحليفهَا اَلقدِيم فِي حرْبيْنِ عالميَّتيْنِ ضِدَّ ألْمانْيَا النَّازيَّة، هِي ذَاتُها اَلوصِية اليوْم على القرَار الأوروبِّيِّ بِمرْكَزه الاقْتصاديِّ الألْمانيِّ فِي مَسائِل عَدِيدَة، مِنهَا مَسْأَلة اِصطِناع الحرْب الأوروبِّيَّة ضِدَّ رُوسْيَا عَبْر أُوكْرانْيَا، وَالتِي ستؤدِّي إِلى تَحقِيق مَصالِح أَميرِكا، ولو بِشَكل مَحدُود، بيْنمَا ستؤثِّر سلْبًا، وبشكْل مُتَفاوِت على اَلكثِير مِن دُوَل الاتِّحاد الأوروبِّي المعْتمدة على مَوارِد النِّفْط والْغَاز والدَّقيق والطَّاقة، وَالذِي أَحكَم الدُّبُّ الرُّوسيُّ قبْضته عليْهَا. وَلقَد بَدأَت أَعرَاض التَّأْثير اَلسلْبِي تُظْهِر بِوضوح فِي مُستَوَى رَفاهِية الحيَاة اليوْميَّة لِلْمواطن الأوروبِّيِّ تحْديداً فِي الأشْهر الأخيرة مِن هذَا اَلْعام. وَلأَن الشَّيْء بِالشَّيْء يَذكُر، فقد سبق لِكلٍّ مِن أَميرِكا ومعهَا بَعْض دُوَل أُورُبا الاسْتعْماريَّة أن شَعرَت بِخَطر التَّأْثير اللِّيبيِّ على مُسْتقْبَل مصالحهَا فِي إِفْريقيَا قَبْل 2011 م، وأدْرَكْتُ سريعًا تبعات اِسْتراتيجيَّة التَّنْمية الشَّاملة والْأَمْن الاجْتماعيِّ اَلتِي تَبَناهَا اَلشهِيد " مُعمَّر القذَّافي " فِي القارَّة السَّمْراء التى كانت عاجزة عن اِسْتثْمار مواردهَا الطَّبيعيَّة والْبشريَّة فِي تَحقِيق التَّنْمية الاقْتصاديَّة والاجْتماعيَّة، وحذَّرتْ أَميرِكا نظيراتهَا مِن الدُّول المتقدِّمة الطَّامعة فِي تِلْك الموارد والْمصابة بِهَوس الوصاية على دُوَل العالم الثَّالث النَّامية مِن خُطُورَة اِنْعكاسات اِسْتراتيجيَّة "القذَّافي" السِّياسيَّة والْأمْنيَّة على علاقَات أَميرِكا وَدوَل الاسْتعْمار الأوروبِّيِ اَلقدِيم مع قَارَّة أفْريقْيَا اَلتِي يَدفَع الزَعيم"القذَّافي" نَحْو شَحْذ إِرادة شُعوبِهَا، وكيْف أنَّ تبنِّي سِياساته الهادفة إِلى الحَد مِن اِسْتمْرار تَغوُّل المسْتعْمر اَلقدِيم فِي إِفْريقيَا القارَّة اَلْخام الخاملة، وكذلك كسْر شَوكَة الوصاية مُقَابِل تَقوِية الإرادة الشَّعْبيَّة والسِّياسيَّة لِشعوبهَا المسْتكينة، وخلْق صَحوَة الحاجة الماسَّة إِلى ردِّ الاعْتبار المعْنويِّ والْمادِّيِّ عن حِقْبَة الاسْتعْمار اَلقدِيم، سَوْف يَقلِب الموازين ويعيد صِياغة تَشكِيل العلاقات الدَّوْليَّة بَيْن الدُّول المهيْمنة والتَّابعة، خُصوصًا فِي أُورُوبا وْأميريكا مِن جِهة، وأفْريقْيَا مِن جِهة أُخرَى، وَلذَلِك صَدرَت قرارَات مَجلِس الأمْن الخاضع لِلْوصاية الأميركيَّة بِوسائله الأوروبِّيَّة بِضرورة التَّخَلُّص مِن اَلزعِيم الأفْريقيِّ مُعمَّر القذَّافي بِأيَّ ثمن وتحْت أيِّ مُبررَات زَائِفة . 

ولأنَّنَا فِي صدد تَشخِيص بَواعِث العدَاء الرُّوسيِّ الأميركيِّ الحاليِّ، وَالذِي يُتَوقَّع البعْض أَنَّه يُعَد مُؤَشراً لِحَرب عَالمِية ثَالِثة، على الرَّغْم مِن أنَّ الرُّوس والْأمْريكان ظَلًّا حليفَان فِي الحرْبيْنِ العالميَّيْنِ اَلأُولى والثَّانية ضِدَّ ألْمانْيَا وَدوَل مِحْورِهَا، لِذَلك تَأتِي الحاجة إِلى مُحَاولَة خَلْق نَوْع مِن العصْف اَلفكْرِي اَلذِي نَستدْعِي معه بَعْض الأفْكار النَّظريَّات اَلتِي اِنْتظَمتْ بِهَا السِّياسة الأمْريكيَّة نَحْو أُورُوبا مِن جِهة، وَكذَلِك تُجَاه اَلورِيث السُّوفْيتيِّ مِن جِهة أُخرَى. فالنَّظريَّات الأميركيَّة وَضعَت مُحددَات العلاقة مع الدُّول اَلأُخرى، وَهِي عَلاقَة لَا تَعتَمِد على الصُّدْفة، بِقَدر مَا تَقُوم على أُسُس عِلْميَّة تَتفِق غالباً مع المبادئ الوطنيَّة العامَّة لَهَا كَدوْلَة عُظمَى ضِمْن اِسْتراتيجيَّات مُتفَق عليْهَا تَخضَع لِلتَّجْربة المتكرِّرة والتَّحْديث دُون الانْحراف عن الغايات المنْشودة اَلتِي تَقُوم على الهيْمنة بِكلِّ أساليبهَا . لَقد دفع مثلا كُل مِن "هِنَري كِيسنْجر" و " ِريجينسْكي" ، وَهمَا مُسْتشاران فِي الأمْن اَلقوْمِي الأمْريكيِّ خِلَال فَترَة الحرْب الباردة، فِي مَا كَتَباه عن الدِّبْلوماسيَّة وَ رُقعَة الشَّطْرنْج اَلكُبرى ، دفْعاً كبيراً فِي اِتِّجاه مُوَاصلَة الاهْتمام الجيوسياسيِّ لِلْولايات المتَّحدة على أُوراسْيَا، و روسْيَا تحْديداً، بِالرَّغْم مِن اِنهِيار الاتِّحاد السُّوفْيتيِّ، حَيْث فرْضا ثِقْلهمَا الجيوسياسيَّ بَعْد نِهاية الحرْب الباردة. وَلقَد بَدِى ذَلِك واضحاً فِي مَا كَتَباه عن الأوْلويَّة الأمْريكيَّة وضروراتهَا الجيوسْتراتيجيَّة، وهكذَا أُعيد إِحيَاء النَّظريَّات الجيوسياسيَّة الأنْجلو- أمْريكيَّة التَّقْليديَّة، وَهُو مَا نَرَاه اليوْم واقعاً مَلمُوساً تَعكِسه مِرْآة الفعْل السِّياسيِّ الأنْجلو- أَمرِيكي تُجَاه أَزمَات بَعْض الدُّول مِثْل لِيبْيَا. 

إِنَّ التَّقارب الأميركيَّ الإنْجليزيَّ جاء اِعْتمادًا على نَظَريَّة "كِيسنْجر" اَلذِي عَارَض الاعْتقاد السَّائد بِأنَّ تَفكُّك الاتِّحاد السُّوفْيتيِّ يَعنِي فِعْليًّا اِنتِهاء النَّوايَا العدائيَّة وبطْلَان الاعْتبارات السِّياسة الخارجيَّة التَّقْليديَّة، فقد جاء فِي بَعْض مَا كُتبُه : «سيقولون إِنَّ رُوسْيَا، بِغضِّ النَّظر عَمَّن يَحكُمها، تَمتَد على جانبيْ المنْطقة اَلتِي أَطلَق عليْهَا هالْفورْد ماكنْدر القلْب الجيوسياسيِّ، وأنَّهَا وَارِثة إِحْدى أَقوَى الإمْبراطوريَّات». وبناء على ذَلِك، يَنبَغِي على الولايات المتَّحدة « الحفَاظ على تَوازُن اَلقُوى العالميِّ مُقَابِل دَولَة ذات تَارِيخ طويل فِي سِياسة التَّوَسُّع الإقْليميِّ ». يَأتِي فِي المرْتبة التَّالية لِروسْيَا التَّهْديد الجيوسياسيَّ المتبقِّي فِي ألْمانْيَا، ومثْلَمَا كان يَخشَى "ماكنْدر" قَبْل تِسْعين عامًا، خَشِي كِيسنْجر مِن شراكتهَا مع رُوسْيَا، حَيْث أَدرَك كِيسنْجر أَنَّه خِلَال الحرْب الباردة "مَا لَم تَنخَرِط أَمرِيكا بِشَكل حَيوِي فِي أُورُوبا، فَإِنهَا ستضْطرُّ فِيمَا بَعْد لِلزَّجِّ بِنفْسِهَا فِي ظُرُوف قد لَا تَحمِل الخيْر لِكلَا جانبيْ اَلمحِيط الأطْلسيَّ". 

مَرَّت تقْريبًا أَكثَر مِن ثَلاثَة عُقُود على اِنهِيار إِمْبراطوريَّة الدُّبِّ السُّوفْييتيِّ، وَالذِي يُحَاوِل اَلرئِيس الرُّوسيُّ اَلعنِيد "بُوتين" إِعادة بِنائه مِن خِلَال تَعزِيز قُوَّة تَواجُد مُوسْكو اَلدوْلِي فِي إِفْريقيَا وَكذَلِك بِالشَّرْق اَلْأَوسط، وَهُو يَعتَمِد لِتحْقِيق ذَلِك على سِياسة بِنَاء تحالفات مع دُوَل نَامِية، مُسْتغِلًّا كَراهِية هَذِه الدُّول لِصلتِهَا المتبقِّية مع مُسْتعْمرهَا اَلقدِيم اَلذِي اِسْتنْزف مواردهَا دُون أن يَنعَكِس ذَلِك على اِقْتصاديَّاتهَا الوطنيَّة، وأقْرب مِثَال على ذَلِك تَعكِسه عَلاقَة فرنْسَا الدَّوْلة المسْتعْمرة لِعديد مِن دُوَل أفْريقْيَا المنْهوبة، وَكذَلِك خُصوصِيَّة الحقْد الدفِين فِي الشُّعور الباطن لِليبْيَا تُجَاه إِيطالْيَا. لِهَذا يَعمَل بُوتين مِن خِلَال القنوات الرَّسْميَّة بِشَكل مَحدُود، وَمِن خَارِج القنوات الرَّسْميَّة بِشَكل أَوسَع، وَذلِك عَبْر مُسْتشارين و وكلَاء كمتعهِّدين لِشركَات أَمْن خَاصَّة وشركَات تِجارِيَّة كالْفاغْنر، وبالْمقابل يَعمَل الأمْريكان على مُوَاجهَة ذَلِك ضِمْن الملفِّ الأوروبِّيِّ فِي حَرْب اُوكْرانيَا عَبْر شركات وَكِيلَة موازية مَثَّل شَركة الموزارْت. وَإذَا كان كُلٌّ مِن سبق بُوتين مِن القياصرة قد اِعتمَد التَّوَسُّع لِضمان الأمْن اَلقوْمِي الرُّوسيِّ، فلماذَا لَا يَعمَل القيْصر اَلجدِيد بُوتين بِتلْك القاعدة المعْهودة، خُصوصاً مع اِسْتجابة الدُّول الأفْريقيَّة لِهَذه الرَّغْبة الرُّوسيَّة اَلخفِية، وربما الجَامحة. وَلقَد اِتضحَت خِلَال السَّنوات الأخيرة حَالَة التَّزامن بَيْن النَّشَاط الرُّوسيِّ فِي القارَّة الأفْريقيَّة مُقَابِل التَّراجع لِدَور الولايات المتَّحدة وحلفائهَا الأوروبِّيِّين فِي اَلكثِير مِن تِلْك المناطق. وَهنَا تَفُوح على مَقرُبة مِن أَنْف الدُّبِّ الرُّوسيِّ رَائِحة مَوارِد أفْريقْيَا مِن النِّفْط والذَّهب والْمَاس وَغيرِها، وَهِي الرَّائحة اَلشهِية نَفسُها اَلتِي تَعالَت مَعهَا قِعْقَات أَمعَاء دُوَل أُخرَى مُختلفَة وَسَال لُعَابهَا لِأَجل التَّلَذُّذ بِهَا. وَإذَا مَا تجاهلنَا مَصادِر وِكالة " بُلومْبيرْغ " الأمْريكيَّة ، المجْهولة وَالتِي لَم تُسَمهَا، ولأنَّهَا وِكالة غَيْر مُحَايدَة أيْضًا، وَالتِي جاء فِيهَا أنَّ مُرتزقَة فاغْنر يتمرْكزون فِي عَشْر دُوَل أفْريقيَّة مِنهَا : السُّودان ، جُمْهوريَّة إِفْريقيَا اَلوُسطى ، لِيبْيَا ، زِيمْبابْوي ، أَنغُولا ، مَدْغَشقر ، غِينْيَا ، غِينْيَا بِيساو ، مُوزمْبيق وجمْهوريَّة الكونْغو الدِّيمقْراطيَّة، وَهُو تَواجُد بِهَدف تَدرِيب اَلجُيوش المحلِّيَّة وحماية كِبَار الشَّخْصيَّات أو مُكَافحَة الجماعات المتمرِّدة أو الإرْهابيَّة، وحراسة مَناجِم الذَّهب والْمَاس والْيورانْيوم فِي المناطق السَّاخنة، بِالْمقابل سَوْف تَحصُل الشَّركات التَّابعة لَفاغِنر على اِمْتيازات وتراخيص لِاسْتغْلال هَذِه المعادن والثَّروات، وَتورِيد أَسلِحة وتقْنيَّات وخدْمَات عَسكرِية، هذَا التَّقْرير قد يَكُون مُبالِغًا فِيه ، لَكِن مِن اَلمُؤكد أنَّ لَفاغِنر تَنتَشِر بِشَكل مَلحُوظ فِي لِيبْيَا حَوْل نِفْط وَغَاز خليج سِرْتُ "الهلَال اَلنفْطِي"، بدأ مِن الخُطوط الحمْراء عِنْد السِّدادة فِي سرتْ، تِلْك اَلتِي أَعلَنت عَنهَا مِصْر شكْليًّا على لِسَان رَئيسِها عَبْد الفتَّاح السِّيسي، وَهِي بِدون شكِّ رَغبَة فاغنْريَّة بِامْتياز، جَاءَت بِهَدف لُويْ ذِرَاع الشُّركاء فِي حَرْب أُوكْرانْيَا ضِدَّ رُوسْيَا، واتَّخَذتْ اِحْترازًا مِن أن تُصْبِح لِيبْيَا بديلا عن تَصدِير النِّفْط والْغَاز مِن مُعدَّة إِلى الدُّبِّ الهائج إِلى مُؤَخرَة القارَّة العجوز "أُورُوبا"، كَمَا أَنَّهَا حَقَّقَتْ لِمِصْر تَعْزِيزاً لِأَمْنِهَا اَلْقَوْمِيِّ مِنْ مَسَافَةٍ تَصِلُ إِلَى قُرَابَةِ اَلْأَلْفِ كِيلُومِتْرِ غَرْبَ حُدُودِهَا اَلشَّرْقِيَّةِ مَعَ لِيبْيَا. وغَيْر ذَلِك، يَبدُو واضحًا أنَّ اِندِفاع رُوسْيَا نَحْو أفْريقْيَا مُؤَخراً جاء ضِمْن حُزمَة مِن المسْلمات الجيوسياسيَّة المحْسوبة بِدقَّة، مِنهَا مُحَاولَة رُوسْيَا اِسْترْداد اَلمُثلث التَّاريخيِّ اَلقدِيم، وَالذِي يَشمَل كُلٌّ مِن رُوسْيَا اَلكُبرى، روسْيَا الصُّغْرى "أُوكْرانْيَا"، روسْيَا البيْضاء "بِيلاروسْيَا"، وليْستْ الحرْب مع أُوكْرانْيَا إِلَّا أكثَر أَعوَاد اَلحُزمة اِشْتعالاً فِي ذَلِك الفضَاء الرُّوسيِّ الأوروبِّي اَلذِي سَوْف يَستجِيب لِرغْبة مُوسْكو بِمجرَّد إِعادة "سَوفْتتْ، رَوسنْتْ" أُوكْرانْيَا مِن جديد، أيْ عوْدتَهَا لِحاضنة رُوسْيَا السُّوفْيتيَّة. وَإذَا ما تَعذَّر ذَلِك، فإنَ الدُّب الرُّوسيُّ اَلجدِيد جَاهِز لِلْعبثِ بالْخطوط الجُغْرافيَّة، وَهذَا مَا يَحصُل فِعْلا الآن مع أُوكْرانْيَا بَعْد تَطوِيع بِيلاروسْيَا مِن قِبلهَا. يُضَاف إِلى مَا سبق رَغبَة رُوسْيَا فِي الحفَاظ على مِنطَقة نُفُوذ لَهَا، أو مَناطِق عَازِلة مع أُورُبا الغرْبيَّة. فجميعنَا يَعلَم أنَّ رُوسْيَا خَسرَت هَذِه العوازل مع سُقُوط الاتِّحاد السُّوفْياتيِّ، ومع تَوسُّع حِلْف شَمَال الأطْلسيَّ "النَاتُو" شرْقًا، بِالْإضافة إِلى أَهَميَّة تَأمِين عَوازِل القوقاز اَلتِي بَرزَت خِلَال دَمَويَّة حَرْب الشِّيشان وكازخستان. 

كُلُّ هذَا وغيْره يُبيِّن سَعْي رُوسْيَا الدَّائم لِكيْ تَكُون لَاعباً دوْليّاً مُحترَما ومعْترفاً بِدوْره المحْوريِّ، بل المُتحكِّم فِي بَعْض مُحركَات الاقْتصاد الأوروبِّيِّ، وَإذَا لَم تَقبَل دُوَل الغرْب المسْتفزّة لِروسْيَا نَتيجة خنوعهَا لِلْإرادة الأمْريكيَّة، فَإِن رُوسْيَا سَتكُون اَلعُنصر المشاغب فِي مَلعَب أُورُوبا، على قَاعِدة "يَا نَلعَب يَا نخرِّب"، فَروسْيَا لَن تَكُون أَرضُها مَلْعَباً مُباشِراً هَذِه المرَّة، وَلن تَكُون هُنَاك مُبارَاة لِكَأس حَرْب ثَالِثة عَالمِية تَخسَر مَعهَا رُوسْيَا فقط مَلايِين الأرْواح، لَكِنهَا سَوْف تَستَغِل قُوتَهَا فِي التَّوَسُّع على جُغْرافيَّة دُوَل أُخرَى، وَسَتَفذ إِلى مُغذيَات الأحْشاء الأُروبية فِي مَا هُو أَشبَه بِاسْتثْمارات نفْعهَا التَّنْمويِّ مُتَبادَل مع دُوَل الموارد الأفريقية المقْصودة، ضِمْن تَقاسُم صِينيٍّ مَقبُول وَمُغري، فالتَّواجد الرُّوسيُّ فِي إِفْريقيَا لَا يَهدِف، حَالياً على الأقل، إِلى قَضْم هُويَّة القارَّة، وليْس مُنْدفِعًا إِلى إِحدَاث تَغيِير فِكْرِي بِهَا بِالشَّكْل اَلذِي يُوحي بِالاحْتلال النَّاعم لها، فَهُو لَن يُثير حِمْيَة الأفارقة ويبْعثهم على مُقَاومَة تَمددِه التَّدْريجيِّ، وَهُو بِذَلك يُعتَبَر نقيضاً لِلتَّواجد الأميركيِّ والْفرنْسيِّ والْإنْجليزيِّ اَلذِي تَتَفنَّن وَسائِل مُخابراته وإعْلامه فِي جَذْب اِهتِمام الشُّعوب، ثُمَّ فِي بثِّ السُّمِّ فِي العسل، لِتفْعل فِعْلهَا على المدى اَلبعيد فِي التَّغْيير المعْرفيِّ، والْمواقف والاتِّجاهات، والتَّنْشئة الاجْتماعيَّة، وَرُبمَا السِّياسيَّة أيْضًا. وَلِهذَا فَإِن رُوسْيَا قد تَنجَح حَيْث أَخفَقت أَميرِكا وتوابعهَا، رُبمَا لِأنَّهَا ، أيْ رُوسْيَا، لَم تُجَاهِر بِأنَّ حُضورَهَا فِي بَعْض الدُّول كسورْيَا وليبْيَا، وَفِي إِفْريقيَا عُمومًا، دَوافِعه مُرتبطَة فقط بِمصالح رُوسْيَا اَلعُليا، دُون وَضْع أَدنَى اِعتِبار لِسيادة الدُّول الوطنيَّة، وَهِي على الأرْجح سِيادة مُنتهكَة بِنسب مُتفاوتة ووسائل مُختلفَة، لَعلَ رُوسْيَا تَفعَل هذَا التَّكْتيك ولو مِن باب "تَطيُّب الخواطر"، على العكْس مِن عُنْجُهية أَميرِكا اَلتِي بَرزَت فِي اَلخُطة العشْريَّة الأمْريكيَّة فِي لِيبْيَا على سبيل الذِّكْر لَا الحصْر، بِكلِّ مَا لَمسْنَاه فِيهَا مِن وِصاية وَتَطاوَل. وَفِي المحصِّلة تظلُّ كُلُّ هَذِه الدُّول بَاحِثة عن مصالحهَا اَلتِي لَهَا أوْلويَّتهَا مع اِختِلاف أساليبهَا .

لَا يَجِب بالمُقَابل أن نُغْفِل الانْدفاع اَلترْكِي فِي علاقَته مع رُوسْيَا، أو رُبمَا تاريخيَّة تِلْك العلاقة، فَمِن غَيْر المقْبول أن نَتَوقَّع حدوث صِداماً مُباشِراً بيْنهمَا فِي لِيبْيَا، ومَا حدث فِي أَبرِيل 2019 م، كان أَشبَه بِحالة "النَّجْدة أو اَلفزِعة"، وَإِن سَارَع طلب " فَائِز السَّرْج " التَّدَخُّل اَلترْكِي لِمواجهة زَحْف "خَلِيفَة حَفتَر" على العاصمة طرابلس مِن تَحقِيق مَصالِح مَرجُوة لها فِي لِيبْيَا، أو مِن خِلَال تَدخلِها فِيهَا ضِمْن تعْقيدات مِلفِّهَا تُرْكِيا السِّياسيَّ والْأمْنيَّ مع دول أخرى، وَهِي مَصالِح لَطَالمَا كَانَت تَتَمنَّى تُرْكِيا بُلوغَهَا، فقد كان بِالْمقابل لِكلِّ طرف محلِّيٍّ لِيبيٍّ مَا يُسْنِد ظَهرُه نِكاية فِي نَظيرِه، لَكِنهَا لَيسَت حَالَة عَدَاء حَقيقِي بَيْن الرُّوس والْأتْراك، فالتَّاريخ يُؤكِّد عُمْق العلاقة بيْنهمَا، والْمسار الاقْتصاديُّ ومظلَّته التِّجاريَّة يعْتبران سبباً كافياً لِلْحفَاظ على تاريخيَّة التَّقارب بيْنهمَا، خُصوصًا ضِمْن دِبْلوماسيَّة حِزْب "العدالة والتَّنْمية" اَلتِي اِنتهَج فِيهَا سِياسة مَحْو المشاكل مع دُوَل الجوَار، وَمِن ضِمْنهَا الدُّول اَلمطِلة على البحْر الأسْود، إِذ تَعتَمِد تُرْكِيا على رُوسْيَا فِي اَلحُصول على مَا يُقَارِب نِصْف وارداتهَا مِن اَلْغاز الطَّبيعيِّ، 12 % مِن الواردات النِّفْطيَّة والطَّاقة الكهْربائيِّة، ولَقد وَقعَت تُرْكِيا مع رُوسْيَا على عَقْد إِنشَاء أَوَّل مُفَاعِل نَووِي تُرْكِي لِتوْلِيد الكهْرباء، وقرَّرتْ شِرَاء مَنظُومة الدِّفَاع الجوِّيِّ الرُّوسيَّة أُس- 400، على الرَّغْم مِن المعارضة الأميركيَّة، وقامتْ تُرْكِيا اِعْتمادًا على - مُوَافقَة رُوسيَّة ضِمْنيَّة - بِثلاث عمليَّات عَسكرِية كَبِيرَة فِي الشَّمَال السُّوريِّ، هِي "دِرْع اَلفُرات"، "غُصْن الزَّيْتون"، "نَبْع السَّلَام". فحجْم الشَّراكة الكبيرة التُّرْكيَّة الرُّوسيَّة لَا يُؤشِّر إِلى فَرضِية التَّباعد والصِّدام المتوقَّعة. والْجدير بِالذِّكْر مِن زَاوِية أُخرَى أنَّ تُرْكِيا أعادتْ النَّظر فِي سِياستهَا مُنْذ سبْعينيَّات القرْن الماضي، وبدأتْ تَنتَهِج سِياسة الانْفتاح على الاتِّحاد السُّوفْياتيِّ وَعلَى الدُّول العربيَّة والْإسْلاميَّة، وَلقَد جاء ذَلِك الانْفتاح إِثْر تَهدِيد اَلرئِيس الأميركيِّ، لِينْدن جُونْسون، بِمَنع تُرْكِيا مِن اِسْتعْمال السِّلَاح الأميركيِّ وَعدَم الدِّفَاع عَنهَا بَعْد تَدخُّل جيْشهَا فِي قُبرُص، إِذ اِعتبَر تَدَخلهَا مُحَفزا لِلتَّدَخُّل السُّوفْيتيِّ. رُبمَا بِسَبب تِلْك الذَّاكرة رَفضَت تُرْكِيا بَعْد اِنطِلاق العمليَّة العسْكريَّة الرُّوسيَّة فِي أُوكْرانْيَا تَنفِيذ العقوبات اَلتِي فَرَضتهَا الدُّول الأوروبِّيَّة على مُوسْكو، حَتَّى أنَّ مارستْ دَوْر اَلوسِيط بَيْن رُوسْيَا وأوروبَّا فِي اِتِّفاق اِسْتئْناف تَصدِير القمْح الأوكْرانيِّ كمثال حيٍّ على عُمْق التَّأْثير المتبادل والتَّقارب اَلشدِيد بَيْن القيْصر الرُّوسيِّ والسُّلْطان العثْمانيِّ، إِلى اَلحَد إِلى يُوحي بِرغْبة عِنْد السُّلْطان فِي الانْتقال مِن حِلْف "النَّاتو" ، والتَّوجُّه شرْقًا بِهَدف اَلحُصول على العضْويَّة الكاملة فِي مُنَظمَة دُوَل شِنْغهَاي.

 ولن تَكُون لِيبْيَا نُقطَة خِلَاف كَبِيرَة بَيْن الأتْراك والرُّوس، أو غيرهما، بل ستدْخل أَزمتها ضِمْن تَاريخيَّة تَقاسُم المصالح بيْن المُتصَارعِين، خُصوصًا عِنْدمَا تَتَحمَّل لِيبْيَا تَكالِيف التَّواجد اَلترْكِي الرُّوسيِّ بِهَا تحت أي مُسمى، كمَا هُو اَلْحال ايضاً فِي تَواجُد دُوَل اِسْتعْماريَّة أخرى موَازيَة اقْتحَمتْ الملفَّ السِّياسيَّ والْأمْنيَّ اللِّيبيَّ، وعملتْ على تعْقيدهمَا،وَالْبَرَكَةُ أَيْضًا فِي اَلتَّمْوِيلِ اَلْعَرَبِيِّ لِكُلِّ مَا أَفْسَدَ اَلْوَضْعُ فِي لِيبْيَا.