من مميزات ما يسمى بالربيع العربي أنه أطلق العنان لكل من له لسان لكي يقول ما يشاء ويفتي بما يشاء ويحلل ّ ويجادل كما يشاء ، فقد عمّت الفوضى السياسية والإجتماعية والثقافية ، وإنفلت جزء كبير من الإعلام ، وتحولت مواقع التواصل الإجتماعي الى منصّات لإعدام العقل ، وبات من الممكن لأي فتى يلهو أن ينشر كذبة  سرعان ما تتحول الى خبر ومنه الى حدث يثير  ردود فعل ومواقف تزيد من صب زيت التشنّج على نار التأزم التي تأكل الأخضر واليابس في بلداننا المنهوكة والمنتهكة 

من هذا المنطلق كانت تصريحات رئيس هيئة الإعلام والثقافة والآثار في الحكومة الليبية المؤقتة عمر القويري ضد تونس ورموزها واحدة من حالات الإنفلات التي لا تستهدف تونس بقدر ما تستهدف الشرعية في ليبيا ، فالسيد القويري لا يزال شابا مندفعا بحماسة العاصفة ، وهو لا يدرك طبيعة التجاذبات السياسية في تونس والإقليم ، ولا حالة التجاذبات حول الملف الليبي بين القوى المؤثرة في المنطقة والعالم ، ولا يدرك أن تونس هي الجارة الغربية لليبيا ، وبها يوجد مليون ليبي ، نعم هم يعيشون بمالهم ، ولم تتصدق عليهم حكومة تونس ، ولكن جزءا كبيرا منهم فرّ من الجحيم في بلاده ، ومن سلاح الميلشيات ، ومنطق الثأر والإنتقام ، وصراع المصالح ، ومن عمليات القتل والإغتصاب والنهب والتمشيط والاعتقال على الهوية التي تنفذها الجماعات المتشددة  والمنفلتة حينا بإسم الله والإسلام وأحيانا بإسم الثورة وفبراير 

ولجوء الليبيين الى تونس ليس جديدا وإنما قديم قدم التاريخ مما جعل نصف التونسيين تقريبا من أصول ليبية ، حتى أن أغلب ساسة تونس هم من ذوي الأصول الليبية من بورقيبة المصراتي الى راشد الغنوشي الخريجي الذي تعود جذوره الأولى الى الخرجة من بطون أولاد سليمان ، والطيب البكوش وزير خارجية تونس الحالي وجذوره من الرقيعات وهو ينتمي الى ذات أسرة عبد الحميد البكوش رئيس وزراء ليبيا الأسبق  (1967 - 1968)

ومن ينظر الى ألقاب التونسيين كالعماري والترهوني والزنتاني والزناتي والصويعي والنايلي والعجيلي والسعفي والعرفي والعبيدي والورفلي والزايدي والككلي والزاوي والطرابلسي والسريتي والسليني والمصراتي والزياني والأدغم والزلطيني والفرجاني  والغدامسي والبكوش والقماطي والزواري  وغيرهم سيدرك حضور القبيلة الليبية في التركيبة السكانية التونسية حتى في تونس مناطق تحمل أسماء قبائل ومناطق ليبية كترهونة وقماطة وورفلة والعجيلات والزوايد والنوايل والعرفات وأولاد بوسيف والسعفات ، هذا دون الحديث عن أحياء بكاملها في مدن تونس كحي الطرابلسية وحي الغدامسية مثلا 

وأن يحدث السيد القويري كما تحدث الإعلامي حمزة التهامي في قناة « الجماهيرية » بسوء عن الرئيس التونسي فهذا يعني أن البعض لا يفهم أن رئيس الدولة هو رمز لها وبالتالي فهو رمز لشعبها ، لذلك فإن حتى من يختلفون معه لا يقبلون التجريح فيه أو المساس منه ومن رمزية منصبه ، كما أن دعوة السيد القريوي للتدخل في تونس عسكريا من قبل تحالف عربي يكشف أن  الرجل كان داعما للتدخل الأجنبي الظالم  في بلاده مما جعلها تصل الى ما وصلت إليه 

وكم كنت أرجو أن يدرك السيد القويري طبيعة الموقف المحرج الذي تجد تونس نفسها فيه ، فهي تعترف رسميا بالحكومة المؤقتة ، ولكن المتمردين من منظومة فجر ليبيا هم الذين يسيطرون على المعابر والحدود المشتركة من الجانب الليبي ، وهي تتطلع الى سيطرة الشرعية على كامل التراب الليبي لإعتبارات عدة منها أن الدولة تود التعامل مع دولة تشبهها وليس مع ميلشيات لا تحترم القانون الدولي ولا طبيعة التعامل مع قيمة ومعنى ورمزية الدولة 

كما أن الحكومة الليبية المؤقتة وهي تواجه الإرهاب تجد صدى لدى الشارع التونسي ، لا أحد يفهم لماذا يحاول السيد القويري ضربه بتصريحاته الخارجة عن الأعراف السياسية والديبلوماسية ، يقول البعض من ذوي النوايا السيئة : أن السيد القريوي يخدم أجندة المتمردين فجر ليبيا لا أجندة الشرعية ومجلس النواب ، وقد إستبق بتصريحاته المسيئة لتونس عملية أحتجاز التونسيين في طرابلس من قبل الميلشيات ليقول التونسيون : لا فرق بين طرفي النزاع في ليبيا ، مسؤول الحكومة المؤقتة يهددنا ويهاجمنا ، والميلشيات تعتقل  أبناءنا 

والسيد القويري ما كان له أن يدعو مصر والسعودية والإمارات للتدخل في تونس لأنه بذلك يحرج تلك الدول ويحرج أصدقاءها المحسوبين عليها في تونس من قبل الإسلام السياسي وعلى رأسهم الرئيس قائد السبسي الذي يهاجمه السيد القويري بعنف 

يبقى أن الرئيس قائد السبسي الذي يفاخر في كل مناسبة بأن له الدور الرئيس في اسقاط طرابلس والإطاحة بنظام القذافي ودعم المتمردين عبر جعل بلاده ممرا للسلاح ، وربما للمرتزقة كذلك ، بات يدرك اليوم أن السياسة ليست خيار إتخاذ الموقف اللحظوي حسب متطلبات الحالة وإنما هي إستشراف المستقبل ، وحاضر اليوم هو مستقبل 2011 الذي حمل معه كل هذا الخراب للمنطقة من خلال تلك المؤامرة العالمية على ليبيا والتي إعترف الغرب والناتو والجواسيس وباعة الشعوب  بأنهم أخطأوا في تقييمها ومازال قائد السبسي لا يجرؤ على الإعتراف بأنه  أخطأ في إندفاعه للمشاركة فيها 

ولكن ورغم كل ذلك فإن الشعب الواحد في تونس وليبيا سيبقى واحدا بعد أن يرحل الحكام والقادة ، وسيبقى الجوار حاكما بأمره ، والجغرافيا أبلغ من تصريحات السياسيين ومن نزوات الإعلاميين ، ويمكن للرجل العاقل السيد عقيلة صالح رئيس مجلس النواب المنتخب أن يتصل بالرئيس التونسي وأن يعتذر له عن تفوهات القويري حتى لا تبقى تلك التصريحات غير المسؤولة سببا في دعم أولئك الصائدين على الدوام في المياه العكرة .

كاتب وشاعر تونسي