يعيد التاريخ عنونة هذا المقال فى حَذَثين مختلفين، علِمت شخصياُ بمجىء الفاعل (شخص) فى الحذث الأول قبل وصوله بشهرين، ولم أتوقع النتائج المُبهرة فى الحذث الثانى، فعل (شعب)، وها أنا أكتب عن المناسبتين بنفس العنوان الذى كتبته منذ ما يقارب 25 سنة مضت.

كانت تربطنى علاقة صداقة وود كبيرين، مع الراحل الحاج أحمد الصالحين الهونى رحمه ألله، والذى أسميته/ وسيبقى فارس أعلام المهجر العربى المعاصر (كان وزيرأعلام المملكة الليبية حتى أنقلاب سبتمبر الأبيض)، حيث هو بلا مُنازع، مؤسس ذلك الأعلام الذى كانت باكورته جريدة العرب بلندن 1977، مع من شاركوه فى ذلك التأسيس، كـالحاج على السلاك، والأعلامى المرموق رشاد الهونى ومن أكتفو بالدعم المادى وأكبرهم يحيى عمر رحمهم ألله جميعاً، وصولاً الى شقيقه الكاتب الصحفى الأستاذ حسن الهونى، الذى لا يُشَق له غبار، فى تحرير وادارة الصحف، وهو الذى سيبقى له الفضل فى تدريب من أصبحوا الآن أساطين تحرير وأدارة ما تلا من صحف مهجرية، كالشرق الأوسط والحياة والقدس العربى وغيرهم.

وكان الحاج الهونى، ولربما لرغبته فى نقاشى ومناكفتى الدائمين له بما لا يُفسد للود قضية، كان يخُصَنى (بمعنى الكلمة) بدعوتى لرفقته (فى بعض) اللقاءات الدولية التى يُشارك فيها، بأعتباره عميد صحفيوا عرب المهجر، والتى عُقد أحداها بجنيف قبل شهرين فقط من الأنقلاب الأبيض لبن على، وأذكر بدقة عشية أنتهاء المُلتقى، حيث فاجأنى قائلاً "أنا مُسافر الآن وفوراً الى تونس، لألتقى وزير داخليتها بن على" نتمنى أن تنتظرنى يوماً واحداً لنسافرمعاً ألى باريس (حيث كنت مقيماً وقتها).

سافرالحاج الهونى (كما كان يحلو له أن يُدعى) وكنت خائفاً عليه لخلاف عابر مع الرئيس التونسى الراحل الحبيب بورقيبة حينها، عند رجوعه بعد 24 ساعة، عشية اليوم التالى حسب وعده، وعند أستقبالى له بمطار جنيف وتحديداً عند بوابة الوصول، بادرنى قبل كلمات ترحيبه الجميلة المُعتادة وهو يرفع عُكازه البنى الشهير تجاهى"خلاص بن على جاى رئيس لتونس وخلال شهرين على الأكثر!، وأنت أول واحد يعرف منى هذا الخبر؟!"(واثقاً من نفسه، حتى أنه أعتبره خبر).

قلت كيف عرفت؟ وفى الطريق الى الفندق، بدأ يسرد لى بعض ما دار فى أللقاء، الذى جرى بينه حصرياً وبين بن على، فى مكتب المُظيف فى وزارة الداخلية، كان الحاج الهونى وللوهلة الأولى كمن يضرب الودع، ولكن لمعرفتى بقدراته وحصافته العجيبة اللا محدودة، وعلاقاته بالقريبين من صُنع القرار (أن لم نقـُل الدول العميقة) ببعض الدول العُظمى! ولا أظن ان بن على أسرَ له بأنقلابه، ولكن تلك العوامل + حذيثه الثنائى الحصرى  معه، ولمدة 3 ساعات متواصلة، كافية (للهونى، أللى ما هو هين) أن يعرف تماماً ما يُخطط له الرجل.

عموماً، بعد شهرين بالضبط، تحديداً وأنا فى طريق عودتى للبيت الذى يمُر ببوات بولون (غابة وسط باريس)، عشية يوم 07.نوفمبر.1987، وبينما كنت أستمع الى راديو السيارة(أذاعة الشرق ـ العربية المحلية آناذاك)، أذا بالبث ينقطع، والمذيع يعلن خبر أنقلاب بن على الأبيض!!!، وكما يقال (فغرت فاى) متعجباً وأنا أستذكر لقطة خروج الحاج من مطار جنيف حيث دقة التوقيت الذى آخبرنى!.

كان النظام البورقيبى الحديدى من ضرب خيال الأزاحات الأنقلابية، لولا أتيان سوس الشيخوخة على عظام النظام وصاحبه، وقبل أنتهاء تفاصيل الحذث، أتصلت فى نفس اللحضة بالحاج فى مكتبه بجريدة العرب بلندن، الذى بادرنى بضحكة طويلة وكأنه ينتظرأتصالى بالخصوص، فبادرته بدورى وقبل تحية الترحيب ومباشرة ً"ألله لا تجيبك ضدى يا حاج".

وللتاريخ أقول، ورُغم العلاقة الحميمة التى ربطت بين الهونى والزين بعد أن أصبح رئيس تونس، أن الحاج أسرَ لى فى مكتبه بتونس وقبل سنة من وفاته، قائلاً بالحرف "بن على لفه القذافى فى جيبه يا منصورى، وبدأ ينزلق فى اتجاه دكتاتوريتة، وعدم سماعه للنصيحة مثله تماماً، وأوينهم التوانسة بيصيرلهم زينا".

كما أذكر، أنه كان دائم النُصح للقذافى وأبناء عمومته، وكان يُسرد لأصدقائه وأنا منهم، كل نصائحه لهم.. وبعد آحد لقائاته بالقذافى، ذكر لنا  بعض ما كان يُكرره له "أرخوا على الناس / أتركوا للناس حرية الأنشطة الأقتصادية، فتلهى بمشاريعها وأعمالها وتنساكم".. ومما كان يردده لقريبه "والله يا أحمد (قذاف الدم)، حيجى يوم إيدوروكم الليبيين وين ما كنتوا فى الدنيا، كان ما أديروش علاش ترجعوا" رحم ألله الحاج الهونى.

ومضت السنين، وبينما كنت أصعد سُلم طائرة شركة (تون ـ إنتير) من جربة(أيام الحصارالأول)أحدى الشركات التونسية التى تأسست وما أكثرها، مثل العشرات من كُبرى المستشفيات الخاصة، كأحد مكاسب الأقتصاد التونسى من أول حصارعلى ليبيـا، وعلى مقدمة جسم الطائرة الصغيرة، كُتب أسمها "الحبيب بورقبة"، كنت وقتها أكتب فى جريدة العرب مقالى الأسبوعى (خواطر)، ولاحت فوراً فكرة كتابة مقال على وفاء التوانسة، فأخترت نفس عنوان هذا المقال، خاصة عندما نقارن ما رأيت فى تونس، بما جرى عندنا فى ليبيـا، حيث أزاح القذافى كل شىء يربط الليبيين بتاريخ العهد الملكى والحركة السنوسية!.

بينما فى تونس والحق يُقال، لم تبقى فقط أسماء الشوارع الرئيسية فى كل مدينة باسم المجاهد الأكبر، ولكن ها هم يطلقون أسمه على طائرة لشركة اُسست بعد سنوات من أنقلاب بن على!، وها نحن اليوم نطلق على  القذافى طاغوت، متناسين أننا أصبحنا اليوم مئات بل آلاف الطواغيت، وفعلنا اسوأ وأشر منه الف مرة؟! حتى تخاله ملاكاً مقارنة بشيطنتا، أقله نبشنا حتى القبور الخاوية لرموز أولياء ألله الصالحين، ومسحنا آثارها على الأرض؟!!.

وأللهم لا زعل، وبعيداً عن عقدة النفطى الزائف، أثبت التوانسة عملياً،  أنهم أكثر وعىٌ وتحضُراً منا، وها هى أثار ما خطه أبن خُلدونهم، وحفيد أجداد تونس أبولقاسم الشابى، تبدوا للعيان ماثلةٌ، فيما حققه شعبهم الأبى الواعى، ولا يصح إلا الصحيح، ولتحيا دولة شياطين النفط.

البلاد التونسية... مهد الديمقراطية المغاربية

من القلب الحزين العليل الباكى على هم ليبيـا الجريحة المحتضرة، نزُف التهانى الحارة للشعب التونسى الشقيق العظيم، ونحن الليبيين فى حالة حبور وفرحٌ هستيرى، تماماً كالذى يأس من الفرح فى بيته، وسمع زغاريد فى بيت أخيه، فأمتزجت دموع حزنه على حاله، بدموع فرحه لأخيه، إذ بدل ألله تبديلا.

فالحمد لله، الحمد لله، ها هو الشعب التونسى ينتصر بشكل كان من ضرب الخيال، ويستجيب لنداء بلقاسم الشابى متحصناً بأراء إبن خلدون، فيختار ارادة الحياة، مستجيباً لأمر ألله، بأن غير ما بنفسه، فصدق الله وعده الحق مع الشعب، مُغييراً حال التوانسة من القنوط الى الفرح، لتعلى زغاريد ولادة الديمقراطية المغاربية الأولىعلى أرض تونس الخضراء،  فطوبى لتونس والتوانسة، ونم يا شابى قرير العين. 

نعم لا آحد كان يتوقع هذا الحذث التاريخى الرائع، مُنذ عصر ما قبل حُكم البايات، إلا أنه وفى خضم النصر والفرحة هاتين، وبغض النظرعن الأختلاف أو الأتفاق، مع من يكرهون حزب النهضة الأسلامى من التوانسة أو غيرهم.

يجب ان نُقر ويُقر التوانسة قبلنا، بأنه، ولولا سماع الشيخ الغنوشى وأتباعه، لصوت شعبهم قبل صوت أهواء سياسة حزبهم، لما تحقق الأنتصار الديمقراطى، المتوج بدستور لم يحلم بمضمونه حتى غُلاة العلمانية التوانسة!!!، ولَمَا سُجلت تونس فى التاريخ، كمهدٌ لميلاد أول ديمقراطية حقيقية، بالبلاد المغاربية ومن الطراز الأول، ليبقى يرفل فيها العلمانى والأسلامى معاً فى وئام، والبقاء للأصلح.. وعلى عكس ذلك،  سنبقى الليبيين نرفل فى قتل بعضنا وتشريد شعبنا فى اصقاع الدنيا، نحلُم بمجرد شبيه بدستور التوانسة!، ولكن وهذه حالتنا المضحكة المُبكية، فحتماً لن نطول ما طاله أشقائنا التوانسة فى زمننا هذا.

لم يُصيب تونس مكروه نفط الشقيقة ليبيـا، إذ مالم نقرر نحن الليبيين التغيير من أنفسنا، فسينسانا الله ويظل، مانسينا الآمتثال لمشيئته، حتى تدب فى عروقنا أرادة الحياة حيث خلت منها دمائنا، التى لوثتها أو بالأحرى، حلت محلها جرثومة شيطان النفط اللعين، اُكسيرعَبَدَته منا، ولا زعل من الحقيقة الساطعة، التى ننكرها رُغم كفخها لجباهنا المتنطعة ماركة الزينقو؟!.

فطوبى لتونس، والدعاء لأبناء اُختها ليبيـا من قياديى التيارات الأسلامية، ليحذوا حذو نهضة الغنوشى ورفاقه، فيستمعوا لصوت الشعب الليبى، الذى هو فى الرمق الأخير، تشرد تلثيه فى أسقاع الدنيا (رد ألله غُربتهم)، مُشتت ثلته الأول هذه الأيام فى كل شبربالبلاد التونسية، وينبذوا الفكرة مستحيلة الحذوث، بأمكانية أن يَحكُم آحد الأطراف ليبيـا بالقوة دون غيرهم؟!.

وأن فاتنا سبق ميلاد الديمقراطية المغاربية على أرضنا(يا سيدى إللى عُقبه خوه ما ذَل)، فلتجنح مختلف (تياراتنا) الأسلامية الى الأقتداء (بتيار) تونس النهضوى الأسلامي (لديهم تيارٌ واحد، ولكن نحنا ما شاء ألله علينا، تيارات مالها حد!)، فلتتوحد تياراتنا الأسلامية فى تياراً واحداً على الأقل، ولنعيش جميعاً من منا بتيار ومن بدون تيار، فى سلام ووئام، وعلى الأقل عيشة الجار للجار، أخوة فى الله والوطن، بدل خسارة الدارين بما نحن فاعلين، اللهم أجعلنا على القول الثابت ثابتين، يا أرحم الراحمين.

كاتب ليبي