الدولة الليبية  بين الرهن أو الأسر : ــ 

  الحقبتان السبتمبرية 1969، والفبرايرية 2011  كلاهما  تتصدران من بِنية سائدة واحدة ـــ غير متحولةِ  ـــ   متصلة لا منقطعة  فهي  حِقبة واحدة ممتدة متصلة ، والتغيير الفاصل بينهما  شكلي في الاشخاص فقط  ؛  ولهذا نفهم أن الصراع والجدل بين أقطاب الفبرارية ، لم يكن صراعا حزبيا ديموقراطيا مسؤولا حيث يقف أطرافه على مسافة واحدة من صندوق الانتخابات ، كل ببرنامجه الوطني ، خططه وخرائطه  ، ومستهدفاته في التنمية الوطنية لبناء الاقتصاد وتنويع مصادره ، وتفعيل الإصلاح والتطوير... خدمة للوطن أو لأجل الوطن( المنيع/ السعيد/ المبارك/ ) ، بل كان صراعا غرائزيا عقيما أو صراعا انفصاميا (دمويا ) علي السلطة  ( غنائمها وسباياها ) ، الأدل علي ذلك ؛ أن الأمة الليبية حين ذهبت لصندوق الاقتراع كانت بذلك  قد قررت  للمرة الأولي بعد نصف قرن ــ ( من الجمود والحفظ في الثلاجة ) ــ   تأسيس نظام ديموقراطي تعددي ، يعتمد علي شرعية الصندوق والأحزاب ، معني ذلك القرار هو وقف أسباب العنف الداخلي بين الإخوة في الوطن الواحد ، ووقف الصراع على السلطة الذي مع الاحتكام للصندوق  لم يعد مبررا له ، وأصبح من معانيه  احترام مواطنية كل الليبيين على السواء الأمر الذي  سيظل عنوانا كبيرا يغطي كل سماء ليبيا  ، ومنع عبثية  التخلف في إشعال فتيل الحرب وتوابعها النفسية والاخلاقية والاقتصادية بين إخوة الوطن الواحد في كل ربوعه ، ولكن من المؤسف الذي يصعب فهمه أن  ما حدث فعلا هو نشوب فتيل الحرب وتطاير شرارتها الداخلية  في كل أطراف ليبيا ، وإمحاء  حق الوطن  بحفظه في القلوب والمآقي ، ويا للخجل بمعصية حرمة الدم وقتل الناس جميعا بهلاك للبلد عهدة وأمانة من الأجداد واجب صونها فمسخت مواطنية الليبيين حيث لا حرمة لا لشريعة الإسلام في حفظ  الدم  ، ولا لصندوق الانتخاب ، ولا حرمة  ولا اعتبار لصوت الأمة مصدر كل السلطات  ، وبالنتيجة  تفشي حُمى خطاب  الأعداء الألداء بين شركاء الوطن، وتبخر خطاب الإخوة وشركاء الوطن وحلّ محله خطاب : " إما  تكفيري إرهابي  أو  تخويني  (أزلام وطحالب ) .

 

   السؤال : لماذا  إذن هذه النتيجة المتردية  أو بنية الغنيمة والصراع على السلطان  بمعناه الانقلاب العسكري ( السبتمبري ) أو بمعناه عند  التفكيك والحفر الجينالوجي  (صراع  قره مانليي علي السلطة والاستحواذ ) ــ البنية الأصل ؟! فقد انتفض الشعب الليبي ، وصحا  بعد فبراير ، لا  ليجد أمامه مرجعية من عقد اجتماعي ، ولا ليجد أمامه نخبة اجتماعية قيادية مستنيرة وطنية متكتلة  قادرة على اشعاع التنوير المدني والتحشيد الوطني ، لم  تجد انتفاضة غالب الشعب الليبي إلاّ راية المملكة الليبية وعلمها  أيقونة الاستقلال المجيد ، وتجربة لنظام ملكي فات زمنه  وانطمس ، لم يسعفه  الوقت في ترسيخ الدولة الدستورية الملكية ، و تحصين أوتادها ؛ فلم يقدر له أن يصمد أمام عدوى الانقلابات العسكرية آنذاك ، ولم يحم عرينه فتمّ اختراقه والـتآمر عليه بيسر دون مقاومة   في مساء رومانسي ، وكان على الملكية  أن تعمل كثيرا ضد هذه اللحظة وتتحصن لها لكنّها  فاتها الميعاد واستسلمت  لواقع  السياسة الدولية المتغلبة بظاهرة فيروس الانقلابات العسكرية آنذاك و كان قدر ليبيا  أنها  بلد  نفطي بامتياز وبلد إفريقي غني بمقومات ـــ  الجيو/سياسي  نادرة الأمر الذي  فتح شهية اختراقه من الخارج قبل الداخل  .

   زاوية أخرى  وجد  الشعب الليبي (البائس ) المنتفض نفسة بعد تحشيد الناتو الخارجي وبعض من أطراف المجتمع الدولي والإقليمي ، وجد نفسه بين تحشيدين آخرين في الداخل : تحشيد سبتمبري وتحشيد فبرايري ليكون فعلا دم الشهداء من الشباب الذين خرجوا مجردا للوطن لا للغلبة  الأيديولوجية ولا لتصفية حسابات قديمة  ليكون بالفعل دم هؤلاء الشباب الذين خرجوا وتظاهروا ....على محك التاريخ  ، ربما كان على العقل  في نهاية التحليل  أن يقول :  ما الفرق في تحشيد الانقلابي ــ الميلشياوي  بمنطق ( " انتصرت الخيمة على القصر  " ) أو منطق تحشيد الفبرايري العقيم  ( "أحنا حرّرناكم  ") ؟!  ...ما الفرق ؟!  وخاصة بالنظر إلي  تقاعسهما في المهمة الاولي : بناء الدولة الليبية العصرية ومجاراتها   لركب الأمم المتحضرة المنيعة المتقدمة  ـــ وبمواصفات ليبيا الأسطورة في مقوماتها الجيو/سياسية  الأسطورية  ــ  ألم تفقد فبراير بوصلة الأمان للشعب الليبي (البائس) ، ولسير سفينة دولته  بين الأنواء والعواصف ؟! ، أوهل يتنهد لسان حال الشعب الليبي ، وينطق من معين حكمته القديمة ،  من  دارج  كلامه هذه المرة :  (  مبهاك يا مرا  بويا  لولة ) أو ينادي بلوح عائم من الأمن والأمان مع حاكم فرد مستبد خير من حائط مبكى لحرية غير مسؤولة وفوضى مدمرة للحياة والوطن ؛ نقول عندما تغيب قواعد استحكام الديموقراطية وآلياتها في الصندوق والتصويت والأمن ، تنفلت الغرائز من عقالها ، فيصير كل شيء مباحا ، وتبدأ مكونات خميرة التمهيد  لتربة  الدكتاتور القادم  الذي يجلب الامن والامان بقوة البوليس والعصا الغليظة  ، فيبقي على الشعب البائس  المسكين أن يركن  للأمن  المنضبط المستبد  ضد الحرية المعربدة ( غير المسؤولة ) باتجاه نظرية العقد الاجتماعي التي أنتهي إليها أساطين الفكر السياسي وفلاسفة الحكم الأوربيين  قبل اندلاع الديموقراطيات في معنى وقيمة الدولة الأمنية التي تضحي بالحرية لأجل الأمن ومركزية السلطة .

 

     الحاصلة : اللاّدولة أو ضد الدولة .

    يمكن  توصيف هذه البنية المتسامتة في العهدين ( السبتمبري الإنقلابي  والفبرايري الميلشياوي ): بنية (ضد الدولة ) قامعة طاردة ، لا متناغمة  ، ولا مستقرة ، لم يطرأ عليها تغيير ، ولم يتحقق المستهدف من تغيير السلطة إلا في الشكل ،  ففي الحالتين ،كان الحاصل  من التغيير فقط هو تغيير شكلاني ليس من مهامه تفكيك بنية السلطة وعلاقاتها القمعية  كغاية موضوعية في (المشروعين ) ؛ فلم   يؤسس  النظام  الجماهيري  الدولة الموضوعية بل أسس سلطته الغاشمة ، ولم يبن أو يضيف  للمؤسس من مكونات الدولة في النظام الملكي شيئا ذا بال غير إبادتها ، كان يمكن إضافة للمؤسس فيها توفيرا للوقت وللجهد ولدواعي التطور والتراكم الإيجابي في حياة الاجيال القادمة ، ولأجل استقرار الدولة وتقدمها في التاريخ ،ولكن ما حدث منه هو تغيير جذري نحو مطلق الغلبة والعدائية  والقطيعة السلبية المطلقة مع النظام الملكي والدولة معا ، وكما يقولون بمسح ــ  الأرض وما عليها  ــ  لكل مرتكزات الدولة مع تدمير وإبادة النظام الملكي نفسه ، كأنه ــ العدو في ذاته ـــ وليس (هو) من بنية ليبية يمكن تنقيحها وفرزها والإضافة إليها ، ما حدث لم يكن تغييرا نحو الأفضل ، بل لم يكن  في عمومه إلاّ عدوانا وانتقاما  ، ونفس بنية العلاقات في فبراير  2011 تكررت ، وبمواصفات عجيبة غريبة تناغمت جميعها في بوثقة واحدة  من عوامل خارجية إقليمية دولية متأهبة مع عوامل داخلية مختمرة جاهزة وما نزال تمور حتي تاريخ كتابة هذه السطور .

 

   ففبراير نتيجة ما قدمناه من تفكيك وتوصيف لبنية الدولة الليبية في تاريخها المعاصر أضاع الإبرة والخيط معا ، وعزل الدولة بقانون شمولي مطلق دكتاتوري أعمى ، لا بصيرة له ، عزلها بجرّة قلم فعزل لحظة عمرها (أربعين عاما ونيفا ) وعزل مدنا وجموعا ونخبة  : ( أنت مُدان حتي تثبت برأتك ) هكذا عموما ...دون عدالة انتقالية ، ودون صحيفة اتهام ثابته الأركان ، كان فبراير من المؤسف وأقطابه يشتغلون بمنطق التنظيم السري الميلشياوي بطريقة العصابات فلا هم رجال دولة ( بناة دولة ) ولا دولتهم لها عاصم من (سيادة ) بل من سياق أزمة  إلى سياق تأزم أسوأ  قاد  (البلاد والعباد ) إلى سيادتين وحكومتين وبرلمانين ثم  تصنيفات ـــ ( فتنة وتمزيق )ـــ  خطيرة جاهزة :  ثوار وأزلام  وأخيرا ثورة وثورة مضادة  ...حتي دخلت ( داعش ) على الخط  دون استئذان معلنة عن نفسها هنا وهناك  ( تسمع بالمعيدي خيرا من أن تراه ) فكانوا  دعاة  حرب لا أخلاقية لها ،  بإباحة دم أخوة الوطن ، وتعطيل  مناشط الحياة ، وتبديد مقدرات الوطن الحيوية بعقلية  السايكوباتي الذي لا مرجعية له من رقيب وطني أخلاقي  ولا من وازع ضمير ديني إنساني   بل جعلوا  الدولة  مستباحة من الداخل والخارج ، فتات وفوضى وتكالب  وتمزق وتشرذم ...هي قاب قوسين أو أدنى إن لم تكن  دولة فاشلة هزيلة ،  دولة علي الخريطة فقط ، ليست بقادرة على محك امتحان قدرها  أو صمودها أمام نوازل التاريخ  إذا  نزلت  ـــ لا سمح الله ـــ  من مجاعات أو زلازل أوعدوى  من وباء خطير يحصد الأرواح ويدمر الاقتصاد أو حرب مفروضة عليها من عدوان خارجي قوي مجهز بما لا يقاس .

 

    ثالثة الأثافي  أن الحاصل  النهائي من هذا الاستضعاف وهذا التأزم والتردي أن  تُطلب الحلول والعون من خارج الحدود ، تطلب من ارادة خارجية لا داخلية  اقرارا بالعجز والتقهقهر إلى ما قبل الدولة  ، إنها  اللادولة  حيث قاطنيها  يتوسلون الأمن والأمان من الخارج بطلب المساعدة ( التدخل ) ، أو مطالبة  المجتمع  الدولي بعمل شيء الذي لم يقصر في شيء ، وهناك محاولات ما تزال تبحث جاهدة عن وقف الدم الذي سال ووقف الانحدار وبدء خطوة أولى لبناء دولة  علي أساس تصحيح  انتفاضة فبراير وعودة إلي مسارها التاريخي من احتكام  وتوقير شرعية الصندوق وبتداول السلطة  ، وفصل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية واحترام المواطنة وتحقيق التنمية المستدامة والعدل واللحمة والتسامح والاحترام ...والرفاهية  لدولة لها من المقدرات ( الجيوسياسية ) ما تحسدها عليها  الأبالسة والدول العظمى . لكن ماذا لو فشلت هذه المحاولات والشيطان ليس دائما موجودا في التفاصيل بل يترعرع  بكثرة في جنّة العبيط  أيضا ؟!....يتبع .

كاتب لبي