خامسا : ـــ ( لتتم صورة  المقال : ارجع لأرشيف  الكاتب )

   هناك في المدرسة السلوكية المثل الكلاسيكي الذي يستخدم كرائز لاختبارات القدرات في  القيادة الإدارية ، المعروف  بمعضلة  (تأزم المرور ) مؤداه أن أزمة المرور هذه لا توجد إلا في حالة  مرور مركبتين اثنتين في اتجاهين متعاكسين في نفس الوقت ، وتتحدد الازمة بأن  حيز الطريق لا يسمح إلا بعبور عربة واحدة فقط  ، فليس من بدّ من حل لهذه الأزمة ، لأنه لا يمكن أن تجمد ( الأزمة ) إلى  الأبد في الثلاجة  ـــ ( العالم المتخلف يمور بمحفوظات الثلاجة ) ـــ ، وكان لابد من حل عاجل لحياة  لا تعرف العطالة ، ومن طبيعتها أن تجدد خلاياها وإلا الموت  ، ومن الضروري بمكان حتي تمرق المركبتان بسلاسة ويسر من عقد اتفاق بأسلوب التوافق والتفاهم علي فئة حل بين قائدي المركبتين وإلا العطالة فالجمود  أو الموت أولا بسبب نظري  : التخلف العقلي = ( عدم الوعي بموضوع الإشكالية )وثانيا : بسبب  عملي : التخلف الأخلاقي ( عدم الوعي بنتائج الأزمة )

  سادسا  : ـــ

    الصندوق الأسود هو أخر ما تبقى من مدونة  يمكن  أن  تعلمنا  بتاريخ  تردي الطائرة ، وفك لغز حطامها وضحاياها ، بالاستدلال علي الغائب من شاهد الحطام .  مجرد فك شفرة رميمها لا يرقي  لبنائها من جديد ، البناء غير الهدم ، لكن بناء معرفة موضوعية من خلال صندوقها  يقودنا  إلى  اكتشاف البنية ومعاينة منظومة (الشواش) الأسباب  التي  أدت  للإشكالية  الراهنة ، ومن ثمة للأزمة و الحطام  ، وما تردى عنهما في حالتنا من سقوط وخراب لكيان الدولة بفقدان البوصلة من جهة  ، وعطب الطيران الآلي من جهة أحري ، ثم الصراع  وتشرذم الأهواء وكثرة  ( الفتوّات ) و( الزعامات ) في العموم من ( مريدي السلطان = خاصّة (النمط السايكوباثي )  بغير زعامة موضوعية خلاّقة ، ودون أفق مستقبلي  بعيد ، لا شيء غير ذباب يتساقط علي عسل السلطة بعماء ، ثم لا شيء غير رائحة الموت بالمجان والخطف والتيه والجنون وخراب البيت الكبير ....الأسوأ في طبائع الاستبداد ومصارع العباد في الحالة الليبية عدم العثور حتي علي الصندوق الأسود لأن الحماقة واستبداد العهود التي مرّت على صندوق الرمل أعيت من يداويها ، ولم تترك  غير الريح تعبث فيه ، وبقايا نفس مفجوعة وعقل متهافت خاسر مترد  ، لم يستفد لا من مقدرات البيئة المحلية العالية ، ــ تحسدنا عليها الدول العظمي وتتمنى زوالها في الحال ــ  ولا من سياق العصر وتطور دول وشعوب كانت متخلفة وبدأت لاحقا ... هكذا تبخرت وتلاشىت شبح ملامح لكيان دولة لم تكن دولة بالمعني الحصري القوية الثابتة الأركان تتغير عليها الحكومات والسياسات وهي باقية   أربعة عقود لم تؤسس خلالها الدولة فعليا ولم تتواصل مع ما قبلها ، قطيعة مع الماضي والحاضر والمستقبل... الأسوأ من كل ذلك  فقدان وضياع  نسخة  توثيقية صحيحة لما جرى من أحداث كانت متسارعة سنحت للخارجي الموتور أن يعربد في الداخل كما يحلو له ويمد ساقيه على قول أبي حنيفة . النتيجة لم  نجد دولة ولا  أرشيف محفوظات لدولة راسخة ، ولا حقوق ولا واجبات ولا جيش ولا شرطة ، ولا حرمة مظلة واقية تحمي من جنون الدم لاحترام الدين والعرف وقيم البيت ؛ الصحراء تنتج البترول لكن لا تنتج القيم ، بل الأمر تعدي من الفوضى والتشرذم  والتعطيل إلى العجز والمطالبة علنا بتدخل المجتمع الدولي بعد أن أستعات الإقليمي الخارجي بتزويد النار في الهشيم ، ما ترتب عنه فشل منظومة المجتمع الدولي ما جعل الحالة الليبية قاب قوسين أو أدني باتجاه ( دولنت ) الأزمة وبلقنتها لتقسيم المتوجد فيها  وتفتيت المكتمل لا سمح الله  .

 

تفصيل  : ــ

  الأزمة الليبية  تراكم  وعي شقي  ...، بلد كان في أمسه القريب  مفرغا  من ثقافة الحقوق والواجبات ، وثقافة العمل ، بل مفرغا من التربية الوطنية والتفكير العلمي ، ومن معنى الشوري والديموقراطية والقانون والاحترام  ، كان مسطحا منذ عقود  بغير تنمية مستدامة وأفق تنموي ...  هذا إن لم يكن معطلا  قصدا ومقصودا ؛  ـــ  ( فسيادة الأمة الليبية وشرفها أيام كانت تنتج وتصدر الفائض من  نبات الحلفا والسلال والتمور والحمضيات والطماطم لخير بكثير مما عليه الآن ، بعد انتاج النفط الذي لا يزرع  ، ولا تعم موارده بالخير والبركة على كل الليبيين ، ولا علي كل تخوم ليبيا الفسيحة ، بل لا يستثمر دخله عهدة وأمانة للأجيال القادمة  ) ـــ  الفقر كان هو نفسه مدى قرون حتي صار نكتة  يتندر بها مواطني دول الجوار، إلا أنه بعد استخراج النفط تلّطف قليلا ــ ( هذا الفقر ) ــ  لكن دون تنمية حقيقية ، دون تنوع في الانتاج وتوازن اقتصادي بين الوارد والصادر . بلد قاصر جُعل اقتصاده ريعي نفطي محدود  ، ليس له خطة  ، أو دون  سياسة حكيمة  في تطوير موارده الاقتصادية والمالية والنقدية..... فضلا عن إهمال مقصود  لموارده البشرية إهمالا ذريعا في كل مناشط الحياة وذلك بتفريغ الوطن من الوطنية والمواطنية  ،  فكان علي مدار أربعة عقود الأخيرة من عمر الدولة الليبية في تاريخها المعاصر ، كان مجرد ظاهرة صوتية ، وفورة إعلامية فقط ، وكانت الموارد البشرية  هلامية ، سطحية ، غير مؤهلة ، وضعيفة  بسبب تقهقر التعليم العام  بشقيه : (التربوي الوطني والعلمي العصري ) ،  بينما  كانت ثالثة الأثافي  النكوص عن  تنمية البادية والريف واهمالهما بعد اكتشاف النفط ، وقد أفرز ذلك وكرّس العقلية القبلية  والعصبية ضد المدينة والمدني ، وعند تنقلها للمدينة ، وبتغير نمط  معاشها أثر ذلك على  قيم الحياة المدنية خاصة بعد أن توّلت إدارات الدولة العامة التشجيع علي الولاء الأيديولوجي التعبوي ، والعصبي القبلي بتكريس ثقافة  : ( انتصرت الخيمة  على القصر) . فوق كل هذا و ذاك الصدمة والرّضة الاستعمارية التي خلفها المستعمر ، وقد أصابت الشخصية الليبية بمقتل  انطبع  في شكل عصاب جماعي عام ، عندما واجه الشعب الليبي في مطلع القرن الماضي غزو إيطالي وحشي استيطاني فاشي ، واجهه وحيدا وبطريقة بدائية  ـــ  دون جيش ــــ وتحت سماء عارية ، وبحر سالك بينما كانت تركيا تتداعي كرجل مريض ، منهك أعجز من المحافظة علي عقد ثمين بين يديه المرتعشتين وقبل أن تنفرط حبّاته ، وتسيح علي الأرض  . كانت في العموم  صدمة  الاستعمار الحديث لقوم لا حول لهم ولا قوة  ، جاءتهم الصدمة لعقر ديارهم من الخارج من وراء البحر ، علي غير توقع  ودون استئذان ، وبغير استعداد منهم ، وعلي غير اقتدار ، زلزلت حياتهم وكيانهم الاجتماعي بهذه الفداحة  أو تلك ، طبّعتهم  بانفصامية موزعة علي الجبل والرمل والطين والبحر ، بقي أثرها العقلي حتي اليوم ، وحتي بعد أن جف  دم  الليبيين المسفوك علي  أديم  كل ليبيا  مقاومة  للقهر الخارجي الفاشستي الاستبدادي ...يتبع

 

كاتب ليبي