ليس ثمة شك في أن الثورة التونسية قد رسمت لنفسها هدفا يتمثل في الدعوة إلى احترام كرامة الفرد مهما كانت الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها. وكنا قد بينا في مقالنا السابق أن هذه الكرامة قد تمت صياغتها بصفة جلية في فصول الدستور التونسي الجديد من خلال دعوته الصريحة إلى حماية حقوق الإنسان ودعوة كل أجهزة الدولة إلى تحقيقها. ولعل جدّة هذا الدستور وطرافته وتفرده بالنسبة للدساتير العربية الحالية تتمثل في أنه لم يرتكز فقط على فكرة الانتماء إلى الهوية العربية الإسلامية أساسا، وإلى عمق التاريخ التونسي والحضارات التي عرفتها تونس، بل ارتكز أيضا على انتماء التونسي إلى مجموعة القيم الإنسانية التي تجعله دائم التواصل مع الآخر معترفا في الأثناء بمبدأ التنوع الفكري والثقافي. وقد بينا في مقال سابق عندما عالجنا مسألة الهوية أن هذه الأخيرة لا تتعارض من حيث هي مفهوم مع تلك القيم الكونية. وأردنا هنا أن نتعمق أكثر في ذلك بأن نتناول بالبحث ما به تكون الهوية منفتحة على تلك القيم وأعني إشكالية التثاقف.

ولابد هنا أن نلاحظ أن معقولية الهوية تتأسس، في بعدها السياسي، وضمن علاقتها بالحداثة على أساسين: في الأساس الأول تكون الهوية سيرورة اندماج قصوى للفرد ضمن دواليب السلطة، وفي الأساس الثاني تكون الهوية شكلا من التذوت وبناء للذات، وانشغالا بها حسب تعبير ميشال فوكو. إذ يؤكد هذا الأخير أننا لم نجد مطلقا، في تاريخ المجتمعات الإنسانية، وحتى ضمن البنى السياسية ذاتها، مزيجا أكثر تعقيدا من تقنيات التفرّد ومن الإجراءات القائمة بما هو شمولي.

فالتماهي الناتج عن تلك التقنيات يعني في ذات الوقت، شرط الحياة المتنوعة والمتذررة في المجتمعات الحديثة كما يعني الخضوع المباشر لكل فرد لأجهزة الدولة وتقنيات السلطة. بل إن التكنولوجيا المعاصرة، تمكن من حبك بارع بين الفردي والجماعي وبين الشخصي والعام، فهي تدعونا إلى إنتاج عفوي للماضي ضمن العادات، وتدعونا إلى إنتاج تقليد أو انتقال لطرق التفكير وللإرادة والإحساس، تدعونا إذن إلى ضرب من انفعال عصبي، يوشك على تعقيد الانفعالات العصبية الجماعية السابقة ومناقضتها وإفراغها كما ذهب إلى ذلك فيلسوف ما بعد الحداثة فرنسوا ليوطار.

لقد أدركت السلطة المماهية أن ما هو سر شخصي هو مسافة يوفرها الفرد لنفسه ويعتبرها سلاحا دفاعيا ضد كل تدخل في حياته الحميمية، فإرادة المعرفة للسلطة تجبر الشخص على كشف حياته الخاصة وطبيعة ملذاته، وعلاقاته الحميمية، وهي تخطّط للفرد في المجتمع فضاء حياته، وتنظم نومه ويقظته وتحرّك رغباته وتصادر الخصوصي، بما أنه في حقيقة السلطة، ليس هنالك من سرّ سوى سرّ الدولة وأمنها أو السر المهني الذي تتحكم فيه سلطة المؤسسات الاقتصادية.

فالسلطة المماهية ليس لها من معادلة سوى السلطة الكليانية.

نفهم في هذه الحالة، لماذا هنالك في الوقت الحاضر وفي كل مكان، مطالبة بالهوية الخاصة، وبالشخصية الفريدة، وبالتأكيد على الذات وعلى إحساساتها، وذوقها، وأنماط حياتها، ومعتقداتها، وفي كلمة واحدة المطالبة بحميميتها. فإن إحدى أدوار التثاقف يكمن تحديدا في الصراع ضد التماهي السياسي وضد تنميط الحياة: فهنا، حسب رأيي، يتبلور المعنى الذي يعطيه ميشال فوكو للتذوت والذي لا يعبّر عن الفردانية ولا هو يحدّد كذلك من خلال الفوضوية، إنه وبكل بساطة معارضة الهوية من حيث هي تمثل الذات الفاعلة للتماهي وسيرورة للسلطة ذات البعد الواحد.

فمنذ الوهلة الأولى، نفهم إلى أي حدّ يجب على التثاقف القائم على قيم الانفتاح والخلق واستشراف المستقبل والاختلاف أن يتجذر أكثر ضمن طريقتنا في مقاربة الهوية مما يجعل علاقة الذات بالآخر غير منفصلة وغير مجزأة، بل هي تشير إلى تنظيم واقعي مؤسس لسيرورات التماهي التي تخصّ مفهومي الهوية والاختلاف، ووظيفتهما الخاصة في المجتمع بشكل عام.

ومن البداهة أن الثقافة تمكّن من هذا التماهي للأفراد وللمجموعات أو للشعوب. فالثثاقف هو الفلسفة التي تمكّن، في نفس الوقت، من احترام الاختلافات البنيوية للثقافات، ومن إقرار أهميتها المتساوية مع الثقافات الأخرى من حيث قيمها الداخلية، ومن اعتبار أية ثقافة كما لو أنها مالكة لبعد كوني، ذلك البعد الذي يجعلها أيضا خيرا مشتركا في متناول الإنسانية برمتها.

يضع هذا التعريف للتثاقف نهاية لطموح المعقولية الغربية في أن تمتلك وحدها هذا البعد الإنسانوي في ثقافتها كما يقدّم للكونية طابعا من التفاهم والتواصل.

فإرادة فرض رؤية واحدة ونهائية للحقوق ولنمط الحياة على جميع الثقافات لا يمكن أن يفضي إلاّ إلى العنف الدائم. كما أن إحدى وظائف التثاقف تكمن تحديدا في الصراع ضد التماهي السياسي والتقوقع الاجتماعي وضد تنميط أنماط الحياة: والتقوقع هو الهروب من معطيات الواقع والتمترس بآليات الماضي إلى حد التصلب في الفكر والتطرف في المواقف. وما التطرف الديني إلا مظهر من مظاهر تقوقع الهوية وغلو في النرجسية الثقافية. ونتيجته المباشرة لن تكون إلا إقصائية من خلال بناء معقولية استبعادية للآخر تعتمد الشبهة والتهمة والتحريم وقد تؤدي إلى الإرهاب.

فمزية التثاقف تتمثل أساسا في الاعتراف للآخر بحقه في الاختلاف، وممارسة هذا الاختلاف علنا دون ترخيص أو مراقبة أو استغلال في كنف سلم العلاقات الاجتماعية.

كما تتمثل هذه المزية في حرية الضمير التي أقرها الدستور وفي حق كل ثقافة مهما كان حجمها في إنتاج الكونية وفي إقامة علاقات تسالم بين الثقافات المكونة للمجتمع دون تسلط. لعل ذلك ما سيؤدي حقا إلى سلم حقيقية في المجتمع حاول الدستور التونسي الجديد إقامتها في تونس دون قهر فئة معينة، ودون غطرسة ثقافة الأغلبية على الأقليات وعلى الأفراد. فالتثاقف تكريس لحق التنوع والتفرد والاختلاف.

 

 

 

كاتب ومفكر تونسي والمقال صادر بجريدة « العرب الدولية »