عبد الستار العايدي

بعد الانتهاء من تشكيل الحكومة الجديدة التي تترأسها نجلاء بودن، أكد قيس سعيّد أنّ تشكيل الحكومة كان وفق ما ينصّ عليه الدستور وبأسرع ممّا كان يتوقّع البعض، منتقدا تصريحات أطراف أجنبية حول تشكيل الحكومة ومشدّدا أن " تونس ليست تحت وصاية أي كان."

ضغوطات سياسية أوروبية وأمريكية وضغوطات إقتصادية من المؤسسات المالية الدولية المانحة، لازالت تعترض الطريق الذي رسمه قيس سعيّد بعد 25 جويلية ، وتحويل مسار المشهد السياسي من نظام برلماني إلى نظام رئاسي يسمح بجمع كل أغلبية الصلاحيات بيده، نظام سياسي قديم برؤية جديدة زرعت القلق في الأوساط الدولية من أن تغلق تونس أبوابها المفتوحة قبل سنوات أمام تجربة سياسية جديدة، النظام البرلماني والذهاب دون عودة في مسار إنتقالي فريد في شمال إفريقيا.

وفي إطار الحفاظ على التجربة الديمقراطية التونسية، الاتحاد الأوروبي، وخاصة الجانب الفرنسي، الذي يؤكد سيادة تونس كل مرة في إتخاذ القرار، حاول أن تكون له موطأ قدم داخل الحكومة الجديدة، هذه المحاولة التي رفضها قيس سعيّد بالقول أن "تونس ليست تحت وصاية أيّ كان"، مؤكدا ما سبق أن "تونس لن تقبل أي تدخل أجنبي" وذلك أثناء المشاورات لإختيار رئيس الحكومة الجديدة إلى جانب تأكيده أثناء لقاءاته مع سائر الوفود الأجنبية أن "تونس دولة ذات سيادة والسيادة فيها للشعب ولا مجال للتدخل في اختياراتها التي تنبع من الإرادة الشعبية". كذلك الجانب الأمريكي الذي مازال يبحث ان يرسم جزءا من صورة المشهد السياسي العام في تونس خاصة بعد إدراج الأوضاع في تونس في جدول أعمال الكونغرس الأمريكي، إجراءات أمريكية دفعت بقيس سعيّد لإستدعاء السفير الأمريكي بتونس وإبلاغه إستياءه من ذلك إستنادا إلى أن الحكومة الأمريكية الحالية قد أعلنت سابقا في بياناتها الرسمية عدم تدخلها في الشأن السياسي التونسي ما لم يقع إنهاء التجربة الديمقرطية الناشئة.

ضغوطات أوروبية وأمريكية وحتى محاولات دول أخرى لرفع الحصار السياسي عن الحضور الإخواني في تونس، أجبرت قيس سعيّد في كل خطوة، على طريقه الجديد، على إرسال التأكيدات ورسائل الطمأنة إلى كل العالم أن ما أقرّه لن يخلّ أبدا بالمسار الإنتقالي الذي تعيشه تونس وبمنظومة الحقوق والحريات. فالوضع الديبلومسي العصيب الذي يعيشه قيس سعيّد ومحاولة هذه الدول التأثير على المؤسسات المالية المانحة دفعه إلى الإعلان عن إجراء حوار وطني، خلال مكالمة هاتفية مع الرئيس الفرنسي ، رغم عدم توفّر أي خطط واضحة وأي الأطراف السياسية التي ستشملها دعوة قيس سعيّدلهذا الحوار.  

يسارع قيس سعيّد بعد تشكيل الحكومة الجديدة، إلى التشديد على أنّ هذه الحكومة ستعمل بكل إستقلالية ضمن الصلاحيات الممنوحة لها دستوريا وليس حسب ما يمليه من الأوامر ولكن على ضوء ما رسمه، ليبرهن للمجموعة الدولية أن أهدافه وأهداف الحكومة الجديدة، أو حكومة الرئيس كما وصفها البعض، تتّسق مع البرنامج الإصلاحي لصندوق النقد الدولي الخاص بالأوضاع الاقتصادية في تونس وذلك بعد تأكيده أثناء أداء أعضاء الحكومة لليمين بالقول "إنّ أكبر التحديات التي ستواجهها الحكومة الجديدة ،هي إنقاذ الدولة التونسية من براثن الذين يتربصون بها في الداخل والخارج والذين يعتقدون أنّ المناصب غنيمة او قسمة للأموال العمومية أو قسمة لمراكز النفوذ متابعا قوله :" إنها معركة تحرير وطني سنخوضها معا وسننتصر ، وذلك إحالة ضمنية على أن سعيّد أراد أن يزيح بعضا من ثقل هذه الضغوطات ويلقيها على كاهل الحكومة الجديدة التي طالبت بها بعض الدول الأجنبية، ووضع كل المتدخلين في الشأن السياسي التونسي في مأزق دولي، وهو أن فشل هذه الحكومة التكنوقراطية مردّه عدم تجاوب المجموعة الدولية مع أجندات عملها وإعتبارها "حكومة رئيس الجمهورية".

قلق دولي لازال قائما حتى بعد تحقيق مطلب الجانبين الأمريكي والفرنسي، تشكيل الحكومة وإستلامها زمام تسيير الدولة، خاصة وقد واصل قيس سعيّد التأكيد على عدم عودة منظومة ما قبل 25 جويلية وإقصاء السلطة التشريعية أو البرلمان من المشهد السياسي، وأنه لا عودة للإخوان أو حركة النهضة للمشهد السياسي وأنه لا مكان لمن يريدون العبث بسيادة الدولة والشعب ومن نهبوا أموال الشعب وسرقوا مقدراتهم، ليفتح أمام هذه الدول المنزعجة من الوضع السياسي في تونس فصلا في الكتاب الذي سطّره بعد 25 جويلية، وهو أن العودة للنظام السابق هو عودة لنظام الفساد الذي حكم تونس بين سنتي 2011 و 2021 وما سبق ذلك، وهذا قد يخلّ بشرط مكافحة الفساد وإنقاذ تونس من أزمتها الإقتصادية وخلاص ديونها المتفاقمة سنويا، وشرط النجاة بتونس إلى برّ الخلاص من "أخونة" النظام السياسي.

التقارب السياسي القوي بين تونس والجزائر حاليا في ما يخص ما أقرّه قيس سعيّد ورفض الجزائر للحضور الإخواني مسبقا، وموقف الرئيس الجزائري الذي أفصح عن مساندته الكاملة لسعيّد وعن الضغوطات الأجنبية الكبيرة التي يتعرض لها ، في ظل علاقات جزائرية مشحونة بالتوتر مع فرنسا وأمريكا، قد يكون هو أيضا من باب الضغوطات الدولية التي تقع على كاهل قيس سعيّد، ويكون حجر عثرة أمام الدور الديبلوماسي الذي تقوم به تونس في شمال إفريقيا اليوم بخصوص الوضع الليبي والصراع الجزائري المغربي حول الصحراء الغربية باعتبار عضوية تونس في مجلس الأمن الدولي، وفشل تونس في هذه الملفات الاقليمية قد يصيب القوى الداخلية بقلق مستمر من عدم إيفاء قيس سعيّد بوعوده المتعلقة بالوضع التونسي.

بين وصف قيس سعيّد للبعض من أطياف المشهد السياسي العام والفاسدين بالخونة ، وبين وصف بعض أعضاء المجموعة الدولية لقيس سعيّد بـ"الخائن للتجربة الديمقراطية التونسية الناشئة" سواء كانت وجهة نظر خارجية محايدة أو بسبب "تحريض داخلي"، لازالت ملفات الأزمات الخانقة على طاولة قصر قرطاج ، ولازالت وعود قيس سعيّد بفتحها وكشف فصولها والبحث عن آليات معالجة مواطن الخلل لإقناع الدول الاجنبية بنجاح مساره.