تمّ إحياء اليوم العالمي للصحافة من خلال كلمات وتقارير تكرس الواقع الراهن، وتتجاهل عموماً في مضمونها أسباب الأخطار الحقيقية التي يتعرّض لها الصحفيون وتصاعد الهجمات والاعتقال والسجن والاعتداء والاغتيال ضدهم، بحيث أصبحوا هدفاً دائماً في المعارك والحروب والصراعات السياسية، وإن لم يكن معلناً.

ورغم كل التّعتيم على هذا الواقع المرير، ورغم اللغة العائمة التي تستخدم للتغطية على القتل والاضطهاد، يتم تسمية بلدان صغيرة عند الإشارة لاضطهاد الصحفيين، وإغفال البلدان الكبرى بخاصة القوى المهيمنة عسكرياً. ولكن المرء يمكن أن يستنتج أن الحرب على سوريا وبالتوازي الوضع في فلسطين واليمن وتونس ومصر وليبيا... قد رفعا مؤشر الاستهداف المتعمّد للصحفيين بشكل غير مسبوق.

في تقريرها السنوي للعام الماضي 2013 سجلت منظمة ''مراسلون بلا حدود'' مثلا أن 71 صحافياً قتلوا فيه خلال ممارستهم عملهم، ورأت أن خطف الصحافيين ازداد بشكل ملحوظ خلال الفترة ذاتها، وقارنت معه مقتل 88 صحافياً في العام 2012، لتستنتج أن حصيلة العام 2013 تراجعت بنسبة 20 في المائة.

 

كما أورد التقرير أن ''سوريا والصومال وباكستان تبقى في طليعة الدول الخمس التي تشهد أكبر نسبة قتل للعاملين في مهنة الصحافة''. ومن بين القتلى 40 في المائة قتلوا في نزاعات مسلحة، كما أن غالبية الصحافيين الـ71 يعملون في الصحافة المكتوبة (37 في المائة) ثم في المقروءة (30 في المائة)، والمرئية (30 في المائة)، والصحافة الالكترونية (ثلاثة في المائة). وشكل الرجال 96 في المائة منهم. وذكرت المنظمة أيضاً زيادة كبيرة في عدد الصحافيين الذين تعرضوا للخطف من 38 في العام 2012 إلى 87 في العام 2013.

 

وبحسب التقرير، فإن ''الغالبية الساحقة لعمليات الخطف سجلت في المنطقة العربية (71)، تليها منطقة جنوب الصحراء الكبرى (11)''. وخطف في سوريا وحدها 49 صحافياً، و14 في ليبيا. وهذه الأرقام كما بات معلوماً غير دقيقة، حيث قتل وخطف عدد آخر، بعد إصدارها التقرير وأثناء فترته، ولا تذكر الأسباب أو الجهات التي تقوم بهذه الأعمال، لأسباب تختارها أو تستفيد منها. لا سيما في العالم العربي وفي بعض بلدانه التي تتعرض إلى حروب داخلية وهجمات معروفة.

 

(في العراق أعلنت جمعية الدفاع عن حرية الصحافة، أن عام 2013، شهد استشهاد 21 صحافياً و286 حالة انتهاك واعتداء ضدهم، وأكدت أن حصيلة الضحايا هي الأكبر منذ عام 2007، وأشارت إلى أن العام الماضي شهد عودة ''غير مسبوقة للاستهداف الممنهج ضد الصحافيين في مختلف مناطق العراق''، لفتت إلى أن هذا الاستهداف كان ''بصورة أشد في محافظة نينوى التي هجرها أغلب الصحافيين بسبب التهديد بالتصفية'').

فمنطقياً عندما توجد القوانين تُلغى الأعذار إلا فيما ندر، وهذا أيضاً عكس ما نراه حاصلاً، فلا القوانين ولا الأخلاق ولا حتى الأعراف والتقاليد قادرة على كبح جماح المطامع الشخصيّة والعالميّة على حد سواء. ومن طلب الأمثلة وجدها على مدّ يده.

منها ما تناولته الأخبار منذ فترة ليست ببعيدة، وهي فضيحة التنصت على الهواتف في بريطانيا، فكانت سبباً مباشراً في سقوط صحيفة ''نيوز اوف ذي وورلد'' وألقت بالتهم والشك على صحيفتي'' صن دي'' و''صن دي تايمز''، وجميعها مملوكة للقطب الإعلامي روبرت مردوخ.

 وقبل الحرب على العراق عام 2003 جاءت الأوامر إلى الإعلامين الأمريكي والبريطاني أن يسخرا كل جهودهما لحرب قادمة لا محالة، وأن يصبح الإعلاميون من صحفيين ومراسلين ومعلقين عمياً وبكماً وصماً إلا عما يمليه عليهم أربابهم، فيروجون لهذه الحرب بكل الوسائل المتاحة، ويقدمون الدعم الأخلاقي والغطاء الثقافي للحملة على "الإرهاب"

 وفي أحداث 11 أيلول 2001 اتضح أن الرواية الرسمية التي سوَّق لها الإعلام الأمريكي ما هي إلا كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، فقد بيّن عدد من الكتاب والباحثين المتخصصين كثرة الأدلة والبراهين حول زيف وافتراء الرواية التي طلبت إدارة بوش من الإعلام الأمريكي أن ينشرها، ولم تحظ هذه الأدلة الدامغة من الاهتمام العام إلا بمعشار ما حظيت به الرواية الرسمية التي أرادت إدارة بوش إقناع العالم بمضمونها من خلال عيون الإعلام.

ومن جانب آخر أحياناً ينتقي الإعلام من الأحداث ما يود تغطيته ويعرض عما لا يود، مع أن الأحداث متشابهة، والقضايا واحدة، فصحيفة ''الغارديان'' البريطانية مثلاً قامت بتغطية مكثفة لأحداث وجرائم ارتكبها ''الأعداء"، مثل ألمانيا النازية، وكمبوديا تحت حكم الخمير الحمر وهو حزب شيوعي دموي سيطر على كمبوديا منذ 1975 وأذاق أهلها مر العذاب، والعراق في عهد صدام، وصربيا في حكم ميلوسوفيتش، أما المجازر والجرائم التي ارتكبت في أماكن أخرى وكان الغرب يحمل مسؤوليتها كلياً أو جزئياً فلم تحظَ إلا بقليل من التغطية والتقارير، مثل أحداث تشيلي تحت حكم بينوشيه، وغواتيمالا في عهد كاستيلو أرماس، وكذلك أندونيسيا أثناء حكم سوهارتو وغيرها كثير.

فمن سخرية القدر أن دولاً معروفة بحريتها الإعلامية بجانبها الإباحي والفضائحي لا بجابنها الفكري تمارس على دول أخرى أقسى أشكال الكبت والقمع الإعلامي، بما في ذلك العمل على حجب قنوات فضائية والمساهمة في عدم إيصال الصوت الآخر بكافة الوسائل، الأمر الذي يرسم علامات استفهام عديدة حول جدوى إقرار يوم عالمي لحرية الصحافة، في الوقت الذي لم يعد الكبت الإعلامي يُمارس ضمن الدولة الواحدة، بل أصبح سياسة عالمية ممنهجة تُمارَس تحت نفس شعار حرية الصحافة، والترجمة العملية لهذا الشعار هي حرية العمل على إقصاء كل صوت إعلامي لا يروق لنا سواء أكان أصوات أفراد أم أصوات دول.

فالإعلام الأوروبي وسلبيته في التعامل مع الوقائع والأحداث في العالم العربي وخصوصاً المجازر والانتهاكات غير الإنسانية المستخدمة ضدّ الشعب الفلسطيني والشعب العراقي... وازدواجية المعايير في نقل الخبر، وهذا طبعاً يأتي من كون إسرائيل تحظى بمكانة خاصّة جداً لدى الأنظمة الممسكة بزمام الإعلام الأوروبي، وحتى في عقر دارهم هم محاصرون، فيكفي مثلاً أن يأتي أحد (كائناً من كان) على ذكر اليهود بالسوء حتى يُتهم بمعاداة السامية ويُحاسب ويُحاكم ويُجرد من حقوقه المدنية، مع غض الطرف هنا أيضاً عن الفضيحة الأخيرة التي طالت قواعد الإعلام البريطاني وهزّت أركانه (مردوخ/سكاي نيوز).

ومن خلال المتابعة لأسماء وأعمال من طالتهم التفجيرات والهجمات الأمريكية والإسرائيلية في العراق وفلسطين وسوريا...، نلاحظ أن جميع هؤلاء المراسلين والمصورين الذين تم استهدافهم كانوا يبحثون عن الحقيقة، وكانوا جريئين في جهودهم ومحاولاتهم للتوصل إلى الحقيقة وإيصالها إلى المشاهد أو القارئ في جميع أرجاء الأرض، وبهذا فإن الكارثة ليست في العدد فقط، وإنما في النوع، بحيث تم من خلال هذه الجرائم، التي لبست لبوس تفجيرات إرهابية حيناً، وأذى غير مقصود حيناً آخر، إخماد أصوات حرة كانت فاعلة ومؤثرة في تسليط الضوء على حقائق الأمور في وجه التعتيم الإعلامي الذي تفرضه المؤسسات الإعلامية والتي تخفي عن المشاهد والقارئ بتنسيق مع الحكومات والمخابرات الحقيقة والواقع.

ولا شك أن التهديد الخطير لحياة الصحفيين في موقع الأحداث، قد شكّل ضربة قويّة للصحافة الاستقصائية في العالم، والتي تعاني اليوم من أزمة غير مسبوقة، إذ أنّ الإعلاميين الأجانب يتذكرون كيف كانوا يقودون سياراتهم من القدس إلى مختلف قرى ومدن الضفة الغربية يتحدثون للفلسطينيين وينقلون معاناتهم للعالم.

اليوم فإن مراسلي وكالات الأنباء والمصورين يُحظر عليهم الوصول إلى مكان الحدث، وحتى المؤيدين الدوليين لحق الشعب الفلسطيني والذين يأتون للتظاهر ضد جدار الفصل العنصري وغيره من الجرائم، يتعرضون على أيدي الجيش الإسرائيلي ومخابراته للضرب والمهانة والاعتقال والقتل، كما كان مصير الشابة الأمريكية راشيل كوري التي سحقتها جرافة إسرائيلية عمداً.

ورغم كل هذا فإن الأمين العام للأمم المتحدة يتهرّب في كلمته عن استهداف الصحفيين من الإشارة إلى هذا القتل المتعمد للصحفيين من قبل القوى الأمنية الأمريكية والإسرائيلية في فلسطين وأفغانستان...، بل يتحدث عن صحافيين فضحوا مخالفات قانونية وفساد، وهذا هام أيضاً، ولكن بشرط عدم إغفال الظاهرة الأعم والأشمل والأخطر وهي استهداف مخابرات تابعة لحكومات مثل الولايات المتحدة وإسرائيل للصحفيين في العراق وفلسطين وباكستان وأفغانستان وذلك لردع الآخرين من الذهاب إلى هناك، وللتخلص من خطر ما قد تكشفه الصحافة والكاميرات للناس في أصقاع الأرض من تجاوزات وجرائم ترتكب بحق المدنيين الأبرياء.

فكم مجزرة ارتكبت في أفغانستان وسمعنا في الأخبار أنه تمّ قتل ''مجاهدين'' لنكتشف بعد ذلك أن الضحايا هم من النساء والأطفال.

والسؤال هو: من المتضرر من كشف هذه الحقائق؟ ولماذا؟

في عصر استعمار جديد يصل إلى أهدافه عن طريق الاختراق، والادعاء بمحاولة نشر الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، بينما هو ساع لامتلاك الثروات الطبيعية وقمع وتهجير السكان الأصليين، أصبحت السيطرة على الآلة الإعلامية، وبخاصة على ما تبقى من الضمائر الحيّة التي ترفض أن يكون لها ثمن، أحد أدوات بسط هيمنة هذا الاستعمار والتغطية والتعتيم على جرائمه وجشعه.

فلو كانت هناك حصانة حقيقية للمصورين والإعلاميين والمراسلين، لما استغرق العالم سنوات ليكتشف أن احتلال العراق قد بُني على كذبة كبرى، وأن الهدف الأساسي من هذا الاحتلال، هو الطمع بنفط العراق وثرواته وحضارته وتاريخه، وإلغاء دوره الهام والمتميّز في محيطه العربي، ولاكتشف العالم سريعاً حجم الوحشية والقتل والدمار الذي استخدم لتحقيق هذا الهدف، وحجم المعاناة الكارثية التي تعرّض لها شعب بريء لم يطلع العالم حتى على تفاصيل معاناته وآلامه.

ولو كانت هناك حرية حقيقية لحركة الإعلام والإعلاميين في فلسطين المحتلة، لما تمكن المستوطنون من أن يعيثوا فساداً وقتلاً وإرهاباً ضد السكان الأصليين كلّ يوم، دون أن تصل أخبار جرائمهم إلى مسامع ومرأى العالم.

يعتمد المحتلون اليوم أساليب تخفي آثار جرائمهم والمعاناة التي يسببونها لضحاياهم، وأول شرط لتمكنهم من إخفاء ذلك، هو قتل الأصوات الحرّة التي رفضت أن تكون جزءاً من ''الصحافة المرافقة للقوات''، والتزمت بما يمليه عليها ضميرها لكشف الحقائق، فواجهت مصير المناضلين الشرفاء الباحثين عن الحقيقة والعاملين على كشفها، حتى على حساب دمائهم وحياتهم ووجودهم.

وبالوصول إلى الإعلام العربي المتهالك أصلاً منذ عقود، الذي يُشبه بشكل غريب كل فرد منا، تأكله رغبة جامحة بفرض آرائه على الجميع، غير المجتمعين بدورهم، فقد وصل الحال في الوطن العربي خصوصا إلى بروز ظواهر متعددة أوصلت إلى ما نشرته التقارير الإعلامية. حيث يتعرض العاملون في وسائل الإعلام لأنواع من ضغوط وممارسات لا تمس فقط حرية التعبير وقمع الرأي، بل الاعتقال ومداهمة الصحف بدون أوامر قضائية وصولا إلى الاختطاف والقتل. تلك الممارسات حولت مهنة البحث عن المتاعب إلى البحث عن الموت، كما اعتبرها كثير من أبنائها بعد كل تلك التقارير.

ولجعل حرية التعبير في الوطن العربي واقعاً، فمسؤولية المهنة تتطلب العمل على إصدار قوانين وقرارات تحمي حرية الإعلام وحياة الصحفيين وتيسر لهم مصادر المعلومات، وإلغاء كل أشكال محاكمات وسائل الإعلام المختلفة، وعقوبة السجن فيما يتعلق بالمخالفات الإعلامية، وكذلك العقوبات الباهظة ضد الصحفيين، ومحاكمة كل حالات الاعتداء على الصحفيين أو الإضرار بهم وكشف القائمين بها، وصيانة حقوق الإنسان بعامة.

في اليوم العالمي للصحافة أقلّ ما يمكن للمنظمات الدولية فعله، وهي التي تدّعي الحرص على حقوق الإنسان وحرية الكلمة، هو أن تشير على الأقل إلى خطورة الجرائم التي تقف ورائها الدول المتنفذة، وأن تسمّي من يقف وراءها كائناً من كان، ومن انتهجها من الدول ''الديمقراطية''، بدلاً من السير في مسار إخفاء الحقائق.