رغم "التجريم" النظري الطويل لمفهوم "النخبة وخاصة النخبة السياسية " او مرادفاتها .. الصفوة او الطليعة .. وخاصة منذ اعلان قيام سلطة الشعب واستنادا الى مقولات نظرية تعتبر ان "حكم الشعب لنفسه بنفسه " يتعارض ويتناقض مع وجود "نخبة " سياسية تهدف الي احتكار حق الشعب في ممارسة سلطته دون نيابة او تمثيل .. وهو ماكان ينبغي ان يدفع نظريا في اتجاه تحول وذوبان وعي تلك النخب اللاحقة والسابقة له و"الساعية للسلطة" في وعي اكبر هو وعي الشعب .. والتخلي عن رؤاها وقناعاتها لصالح رؤى وقناعات اشمل واكبر .. والابتعاد عن فكرة احقيتها باحتكار وسلب وسرقة وامتلاك ماهو حق مقدس للشعب .. وهو السلطة ..

الا ان هذا التوجه والتفكير تجاهل امرين مهمين:

الاول يتعلق بالنخبة التى انجبته : من حيث ان الوصول الي هذا المنجز "والمدخل اليه " لم يكن تتويجا او نتاجا لتجربة نضال وتراكم سياسي واجتماعي جماهيري طويل .. حتي يتم التعامل معه علي انه مكتسب حضاري لذلك التراكم يهب الشعب نفسه "صاحبه" ضد اي محاولة لسرقته او حتى تشويه تطبيقه .. بل كان "هدية" النخبة الوطنية للشعب .. النخبة العسكرية التي تمثلت في "ماتبقى" من مجلس قيادة الثورة .. وليس الشعب نفسه .. مما دفع بعض النخب "خاصة النخب السياسية" القديمة والمتكونة منذ تجربة "الاستقلال" الى عدم التحمس لمشروع الثورة للتغيير .. بل سعت للتشكيك في غاياته واهدافه .. مستندة على مقولة ان من قام بهذه الخطوة هي "نخبة " تنتسب الي مؤسسة يتناقص تكوينها مع غايات ايصال الشعب لحكم نفسه من خلال الديمقراطية المباشرة .. وهي المؤسسة العسكرية "غير الديمقراطية بالطبيعة" .. وتجربتها السياسية المستنسخة "وغير المبيئة" من مصر عبدالناصر "تجربة الاتحاد الاشتراكي " وهو ما ادي الى معارك ومواجهات متلاحقة معها 73 و 76 .. انتصرت فيها "نخب السلطة الثورية" بسبب ارتباطها بمشروع تحول اجتماعي وتنمية ظهرت تباشير نجاحها وفعاليتها .. وبسبب المتابعة والتواصل والنشاط والتفاعل بين القيادة والجماهير ووطنية ومصداقية نخب "مجلس قيادة الثورة"في السبعينات ..

والثاني يتعلق بالنخبة التى انجبها : من حيث ان ذلك التحول لم يمنع من العمل على تكوين "نخبة جديدة " جمعت "من ركب" قطار التحول من الجيل الاول ومن "تم بناؤه وتكوينه" من "الجيل الثاني والاجيال اللاحقه " لتسريع قيام سلطة الشعب "ووصول الناس الي سلطتهم" .. علي ان تقتصر مهام هذه النخبة الجديدة على ترشيده وتحريضه وتحريكه لممارسة سلطته .. بالرغم من ان هذا الدور"الدعوي والرسولي والرسالي " لم يمنع البعض من التفكير في "دور البديل" من منطلق فكري او تاريخي او حتى واقعي وعملي "صادق" احيانا بحسب طبيعة الافراد .. ومن منطق سلطوي تحكمي استئثاري احيانا اخري بحسب طبيعة السلطة كعلاقة وكتكوين من حكام ومحكومين .. زكاه وعمده وشجع عليه استمرار حضور "السلطة الثورية ماديا وادبيا و معنويا" في التدخل والتوجيه والتأثير والتفاعل خاصة بعد شرعنتها "وثيقة الشرعية الثورية" .. مما جعل من "سلطة الاب الرمزي صاحب قرار التحول" اكثر تأثيرا من سلطة الاداة الفعلية وسابقة عليها "التوجيهات سابقة ومقدسة على القرارات " .. ساعد في تقبل هذا الدور الادبي والمعنوي لدى الكثير من فئات الشعب -وليس "النخب الاخري" التي باشرت معاركها معها - القناعة والثقة باهمية ادراك هذه السلطة الثورية لمحيط التخلف الاجتماعي للشعب الليبي وحداثة وهشاشة وضعف تجربته السياسية .. ومبادراتها وعملها الدؤؤب لقهره واخراجهم منه .. ورصد مظاهر النجاح في معركة التنمية والبناء "تحديدا خلال عقد السبعينات" .. وهو ما برر "وأسس" لمسألة قبول تدخل هذه السلطة الثورية ماديا ومعنويا وادبيا .. وجعل منها مسالة مفهومة ومقبولة لانها فعالة وناجحة ..

ولكن وبعد توسع وتعاظم التحديات داخليا وخارجيا وظهور ونمو "ورشد" الابناء الايديولوجيون "اولا" ثم الابناء البيولوجيون "ثانيا" .. وقبلهم الاخوة "جيل الضباط الاحرار ومجلس قيادة الثورة" بما يؤكد حضور فكرة الوراثه "عابرة للاجيال" منذ امد بعيد .. وليصبح لفهم موضوع التدخل الادبي والمعنوي ثم المادي الملاحظ مآرب ومعان اخرى وغايات كامنه .. وليصير امرا لايلق القبول اللازم .. وليصل الي اعتباره مرفوض بسبب خدمته لغايات اخرى "غايات النخبة " وضد مصلحة هذا الشعب بالذات وبالرغم ان تفكير النخب مهما كان استحواذيا وطليعيا فانه سيكون اقل كارثية من تفكير الافراد فقط مهما كانت نواياهم - فقد اصبح البعض -ومع الوقت والتحديات - يدفع في اتجاه "احتكار النجاح" لهذه السلطة "الرمزية والمعنوية " وتحميل اسباب الإخفاق والفشل الي :

 

الاداة .. متمثلة في حركة اللجان الثورية .. باعتبارها الاداة التى "تنادت" ونذرت نفسها لهذا المشروع "كنخبة وحيدة" ولتجعل مهمتها هي تحريض ذلك الكل للوصول الي السلطة .. اى التبشير والدعوة للديمقراطية المباشرة "ودون ان ينعكس ذلك علي تنظيمها وهياكلها .. للمفارقة...!!" ليصل الأمر الى تحميلها المسئولية عن القصور والفشل في التطبيق من حيث انها لم "تقم بمهامها" كمايجب .. او حتى "انحرافها" عن مسارها عقائديا ومسلكيا .. وظهر ذلك بصورة اكبر حين اوكل اليها مهام ومسئوليات "استثنائية" متجددة في عمليات ومراحل التحول وبناء المشروع .. مهام جماعية "كتجربة الادارة الثورية" او فردية "كالاختيار او الدفع ببعض عناصرها" لتقلد مسئوليات تنفيذية .. شعبيه اوثورية ..

-او الي الشعب "تخلفه وجهله ونقص وعيه وعدم استعداده ومواكبته" ..

او الي "المخططات والمؤامرات الخارجية" التي تتآمر على هذا البديل .. لتجهضه وتسقطه .. لأنها تحس بجذريته وبخطره عليها .. اكثر من الشعب الليبي "المحسود عالميا" .. ودون ان يعرف او يعي ..

 

ليصبح ومع الوقت "مشروع حكم الشعب لنفسه" مشروعا نظريا .. تبريريا .. مشروع محافظ .. خالفت تطبيقاته اسسه ومنطلقاته الفكرية النظرية الراديكالية .. مشروع تحول مع الجمود والوقت الى خدمة اهداف وغايات "نخبة وحيدة" اكثر منه مشروع يتسع ويتجه لاستيعاب الجميع وفاء لطبيعته وتكوينه ..

اوردت هذ المقدمة لاصل الى التعليق علي ماذكره د.مصطفي الزائدي في مقاله .. ولكي اكون واضحا ودقيقا قدر الامكان ولتجنب بعض من "سوء الفهم المزمن" معه اتساءل بغرض المعرفة :

اذا كان الشعب الليبي يحس انه يحكم نفسه بنفسه .. فلماذا يثور او ينتفض او يتمرد علي نفسه ؟

-واذا كانت المؤتمرات الشعبية فاعلة فلماذا لم يذهب اليها اولئك الشباب الغاضب ليقرروا ماشاءوا ؟

ولماذا لم يقم مؤتمر الشعب العام بتغيير امين او امانته بعد استعراض كشف مساءلتة وادانته ؟ .. ام ان مايحدث في كثير من الاحيان هو عكس مقدماته تماما .. حيث يكرم المساءلون المدانون باستمرارهم في مواقعهم "لعقود" .. وبمقاييس متجاوزة للكفاءة .. او حتى التخصص .. كأن يكلف رجل أمن لادارة قطاع الصحة أو رجل عسكري لقطاع الزراعة ..!! وبمعنى آخر هل كان الشعب الليبي في مؤتمراته الشعبية هو من قرر ان يتداول 120 "خبير استراتبجي" فقط علي المسئوليات القيادية في دولته طوال اربعة عقود من الزمن الثوري ؟ وفي تجربة شعبية تسعى لمشاركة الجميع .. وللوصول بصيغ تتجاوز تداول السلطة التقليدي الى اقصى درجاتها .. الى منتهاها ..

ان طرح هذه التساؤلات لاينفي او يتجاهل فكرة وجود المخططات والمؤامرات الخارجيه .. ولكنه يقلل من تأثيرها .. خاصة ونحن ندرك انها مكشوفة وقديمة .. ونعرف تاريخ ثورة الفاتح معها الطويل والمشرف .. ونتذكر انها وصلت الي حد استهداف بيت الاخ القائد نفسه وعائلته رحمه الله .. لكن وفي ذلك الوقت "لم يخرج ليبي واحد" في ليبيا ليطالب برحيله او ينحاز الي اعدائه .. او يطلب تدخلهم ..

ولكن ان يطلب "البعض " من شعبه تدخل الاعداء "لاسقاط حكمهم " هذه المرة فهو مايتطلب منا التساؤل : لماذا؟ .. ويستقدم النظر في الاسباب التى دفعتهم لذلك .. اما "الحكم بتجريمهم وخيانتهم " فهو امر سهل ومريح .. ويمكن ان نجد او نؤلف مايستدعيه ويدعمه اجتماعيا وتاريخيا وسياسيا .. من وجهة نظرنا فقط .. لكن ذلك كله لن يعفينا من البحث في الاسباب التى ادت اليها .. لمعرفتها وتجنب الوقوع فيها مستقبلا .. ولا يمنع من الاعتراف بالخطأ والتقصير وتحمل "بعض" من مسئولية ماحدث .. وبالرغم من ان التساؤل عن الاسباب لايبرر بأى حال من الاحوال هذا الفعل او السلوك .. خاصة حين رأينا جميعا ما ادى ويؤدي اليه كل يوم من خراب ودمار وتشظ .. لكنه ضروري لمشاركتهم في صناعة مستقبلنا "المشترك" معهم .. وتجنب تكرار هذه التجارب الحزينة والمؤلمة ..

واخيرا ..

يمكن ان نقول همسا وعلنا ماشئنا عن تجربتنا لنقنع انفسنا بنجاعتها النظرية .. ولا احد يمكن ان يعترض .. لأن ذلك يمكن ان يكون صحيحا ومقنعا .. لكن حين نفكر في تطبيقاتها العملية وما افرزته وما افضت اليه فلابد من ان نشغل عقل اخر .. عقل نقدي .. لا تبريري .. عقل صريح لا موارب .. مسئول لا متنصل .. وقبل ذلك ان نستمع الى الشركاء الاخرين .. ورؤيتهم لتجربتهم .. وماحدث.

واليوم ..

اذا اردنا العمل لمستقبلنا المشترك فلاينبغي ان نستمر في المغالطة والتدليس والتزييف والكذب على انفسنا وعلى اﻵخرين .. وتقديم انفسنا كملائكة .. او حتى كضحايا المؤامرة "فقط " رغم وجود تفاصيلها الظاهرة للعيان .. وغيرنا كشياطين .. رغم وجود الاحتقان الذى يدفعهم للتمرد والغضب الظاهر للعيان ايضا .. لأننا جميعا بشر نخطىء ونصيب .. نرشد ونختل احيانا .. ولان ذلك- وهو الأهم - لايخدم استعادة وبناء الثقة بانفسنا ومعهم لكى تكون قضايانا صادقة .. فلا قضايا عادلة تنتصر حين تبنى على التمويه والخداع .. وهم لن يصدقونا اويثقوا بنا .. كل الوقت وليس لبعضه ..

لأننا "ومن الناحية العملية " لانستطيع ان نقنع "اولادنا" - ناهيك عن الاخرين -بأن ماطبقناه كان تجليا عمليا وحقيقيا لسلطة الشعب .. او ان نثبت لشعبنا "جريمته" حين تخلى عن حكم نفسه بنفسه عبثا .. ولأن الآخرين سيواجهوننا بترسانة من المعطيات والمقولات .. الحقيقي منها والمزيف .. الصغير منها او المضخم .. العارض منها أو الرئيس .. لتحميلنا مسئولية كل شيء .. من حوادث السير الى جريمة ابوسليم .. ومن تجاوز شرطي المرور الى مافعله الاخ القائد رحمه الله .. ليثبتوا لانفسهم واحلافهم اننا كنا نظام قمعي .. او حتى فردي .. همشهم واقصاهم .. ليبنوا حولهم حصون من الزيف والكذب والتضليل .. وليصرحوا ويصرخوا من داخل تلك "الحصون" التى يلجأون اليها .. كسلوك مشابه للجوئنا الى "حصوننا" التى لاتتسع الا لنا .. وفي منهج متناسخ ومتشابه يخدم التعصب والتطرف ويؤدي الى كل الاحتمالات .. الا احتمال التعايش الآمن والسلم الاهلي ..

فلايمكننا "اخلاقيا " ان ندين من خرج مطالبا بحقوقه .. او محتجا ومعترضا على وضع ما .. خاصة بعض الناس "ممن ولدوا وتربوا اثناء وخلال تجربة حكمهم لنفسهم للمفارقة" .. دون ان نشعر بنوع من المسئولية .. او حتى الادانة لانفسنا .. ولوكانوا مئات فقط "كما يحلو للبعص تصغير وتحجيم حجم الغضب والاحتقان الداخلي " لصالح فكرة المؤامرة الخارجية وفقط .. الموجودة والمؤثرة ابدا ودائما .. وكأن ذلك سيحدث لمجرد تصورنا او تكرارنا له .. ولايمكننا أن نتجاهل ان هولاء الشباب انتفضوا حين احسوا بانهم لايحكمون انفسهم بانفسهم ولاتحكمهم نخبة رشيدة تعبر عنهم وتسير بهم نحو مستقبل افضل لهم .. وان الكثير من طرق عدم تفهم ومعالجة هذا الاحتقان قد ادت او ساهمت فيما وصل اليه من نتائج كارثية ستستمر آثارها طويلا .. وسيكون تأثيرها سلبيا على الجميع ..

اعرف اليوم ان هناك من يعتبر :

ان ممارسة النقد قد تصب في مصلحة طرف ضد طرف .. و ان هناك من قد يعتبرها محاولة تجريم او تنصل او اخلاء مسئولية من ماحدث .. مستجلبا ومستخدما في ذلك كل مايستطيع من قواميس ومعاجم الوطن والوطنية .. القديم منها والمنحوت مؤخرا .. قواميس ومعاجم تحيل مفاهيمها الى مرابض ومراعي وقواطع وفواصل وشوارح القبيلة او المنطقة او العشيرة او الشلة .. او حتى الموضة الجديدة الاقليم .. لكنها حتما لاتعني او تشير الى ماصدق "المواطنة" .. ماصدق "الوطن المشترك" للجميع .. ماصدق الشركاء .. لا السجناء او الرعايا ..

ولأن احداث 17 فبراير لم تؤد وتبرز شروخ وانقسام بلادنا ليبيا فقط .. بل وصلت اثارها الى انقسام داخل العائلة الواحده .. ولكن الاخطر والاسوأ من ذلك كله هو تمكنها من انقسام وازدواج العقل داخل نفس منظومة تفكير الفرد الواحد .. حين يصدر "تحليلاته واحكامه" وقبل المداولة علي الآخرين ومواقفهم انطلافا من مرجعية ضيقه .. شخصانية او شللية او قبلية .. او حتى من قناعات سياسية او ايديولوجيه معينة .. بتطرف نوع ما .. ويمكن ان يصدر وبعد لحظات حكما آخر يتناقض معها .. وانطلاقا من مرجعية متناقضة معها تماما .. وبتطرف مضاد .. والغريب والمؤسف ان تتعايش وتتجاور المرجعيتان "او اكثر " دون ان يشعر حاملهما بالخلل في ذلك .. او يشعر بعدم الاتساق او التناسق او المواءمه .. في عقله وخطابه .. او دون ان يشعر ان الآخرين لايصدقونه لانهم عاشوا معه .. ويعرفون الحقيقة كماحدتث .. لا كما يتمنى ذلك "العقل المستقيل" ان تكون قد حدتث.