فإن حماية المجتمع, عبر حريته ومشاركته في الشأن العام, والمزيد من أواصر المحبة والتعاون بين مختلف فئاته وشرائحه هو مضمون الأمن, وهو الذي يحول دون بروز مخاطر على مؤسسة الدولة.. فالسياسات الأمنية ينبغي أن تتجه دوما صوب حماية قيم المجتمع الأساسية وتوفير كل مستلزمات وجوده النوعي ورفاهيته وسبل كسب معيشته. وذلك لأن هذه العناصر الحيوية, هي التي تعمق شعور الجماعة الوطنية بالثقة والتحرر من عوامل الانكفاء والخوف والقلق الخاص والعام. والأمن الوطني في كل مجتمع ووطن وأمة, كل لا يتجزأ. لذلك فإن المطلوب باستمرار مراعاة كل مكونات الأمن الثقافية والاقتصادية والسياسية والمجتمعية. شهدت المنطقة العربية في السنوات الأخيرة حراك سياسي غير مسبوق في التاريخ العربي منذ حركات التحرر,بل أن هذا الحراك شبه إلى حد كبير بالاستقلال الثاني للدول العربية بعد أن تحررت شعوب تونس,مصر,ليبيا واليمن من أنظمة فاسدة استبدت بالسلطة وقهرت هذه الشعوب كما اجتاحت موجات الاحتجاجات معظم الدول العربية وبدرجات متفاوتة واستطاعت الضغط على السلطة وتحقيق انجازات سياسية واجتماعية وافتكاك حقوق أساسية ساهمت في تحرير المشهد السياسي العربي من احتكارات السلطة القمعية.

شعارات الديمقراطية,الحرية والتحرر لم تكن مستقلة عن القوى الخارجية ليسبحكم ان هذه القوى هي الراعية لتلك الشعارات العالمية ولكن بحكم حجم التدخل الخارجي وأسلوب تدخله الغير متماشي مع تلك الشعارات وهذا ما يقودنا إلى طرح السؤال التالي:

هل تعكس ثورات الربيع العربي تراكم النضال الديمقراطي الشعبي والفكري بماهي تتويج له أم أنها صناعة أجنبية لتأكيد المعادلة الثابتة لثبات المصالح الغربية واقتران التغيير العربي بمعيارية الغرب المفاهيمية وأجنداتها لتطبيقية؟

وإن أي خلل يصيب أي مكون من هذه المكونات, سينعكس سلبا على الأمن الوطني كله.. فلا يكفي من أجل تحقيق الأمن الوطني, أن تزداد إجراءات المنع والضبط, لأن هذه الإجراءات تتم في إطار مجتمعي مكبوت, مما يحولها إلى عناصر تزيد من القمع والإرهاب.. وهذا في المحصلة النهائية, لا يخدم المفهوم الاستراتيجي للأمن في المجتمع.. لذلك فإن الخطط والمشروعات الأمنية, في جوهرها وعمقها, ليست هي تلك الإجراءات التنفيذية, وإنما هي تلك الإجراءات والوقائع, التي تزيد من ثقة المواطن بدولته, وتوفر له إمكانية المشاركة في القرار والتسيير بعيدا عن كل أشكال التمييز والإقصاء. فنظرية الأمن, ينبغي أن لا تعتمد على عناصر وإجراءات السلب, وإنما على تلك العناصر والإجراءات الايجابية, التي توسع من القاعدة الاجتماعية والثقافية لمؤسسة الدولة.

 وبالتالي فإن مفهوم الأمن يعني قدرة الدولة والمجتمع معا على الانسجام الفعال وإرساء معالم علاقة حضارية بين الطرفين, تسمح لكل طرف من احترام خصوصيات ووظائف الطرف الآخر. أن تعثر المشروع الأمريكي عسكرياً كما في العراق وغيرها، وأزمة الأسواق المالية، وتعاظم الدورين الإيراني والتركي أفضى إلى طرح مبادرات سياسية موازية، حيث أطلق أوباما شعاره للتغيير محاولاً استعادة هيبة أمريكا، وربما تمكن من فتح كوة مشحونة بالأمل والتمنيات في جدار الصراع العربي- الإسرائيلي، ولكنه سيبقى أسيراً للمرحلة التحضيرية لأفول نجم المشروع الإمبراطوري الأمريكي وليس نهايته.

الذي يتعين إدراكه في شأن الدراسات المستقبلية، فهو أن هذه الدراسات، وإن كانت تتطلب بالضرورة قدراً من الخيال والقدرة الذاتية على التصور المسبق لما هو غير موجود أو غير معروف الآن، إلا أن أنشطتها تختلف نوعياً عن الأنشطة التي تقع في حقل الخيال العلمي أو في ميدان التنجيم والرجم بالغيب. فما يطلق عليه اليوم الدراسات المستقبلية إنما يتمثل - على العموم - في دراسات جادة تقوم على مناهج بحث وأدوات درس وفحص مقننة أو شبه مقننة، وتحظى بقدر عالٍ من الاحترام في الأوساط العلمية، وتنهض بها معاهد ومراكز بحثية وجمعيات علمية ذات سمعة راقية وبطبيعة الحال، فليس الهدف المباشر للدراسات المستقبلية هو التخطيط فقط، أو وضع الاستراتيجيات، وإن كانت هذه الدراسات تفيد دون شك في إعداد العدة لوضع الخطط أو رسم الاستراتيجيات. إذ أنها توفر لأهل التخطيط والاستراتيجيات جانباً مهماً من القاعدة المعرفية التي تلزم لصياغة الاستراتيجيات ورسم الخطط. فكل عمل تخطيطي جاد غالباً ما يكون مسبوقاً بنوع ما وبقدر ما من العمل الاستشرافى (طرح بدائل أولية غالبا لمعدلات مختلفة للنمو والتراكم). ولكن شتان بين أن يأتي العمل الاستشرافى كمقدمة سريعة للعمل التخطيطي، وبين أن تتاح الفرصة لكي ينمو كعمل قائم بذاته، يأخذ وقته اللازم ويستعمل المنهجيات المتعارف عليها، وتستوفى مقوماته. كذلك ليس الهدف من الدراسات المستقبلية هو الإنباء بالمستقبل، بمعنى تقديم نبوءات، أي تنبؤات غير شرطية وغير احتمالية بالأحداث المستقبلية. فكل ما تقدمه الدراسات المستقبلية من مقولات حول المستقبل إنما هي مقولات شرطية واحتمالية.

 ولذا تتعدد المقولات أو الرؤى أو السيناريوهات المستقبلية التي يقدمها الاستشراف، نظراً لتعدد الشروط والاحتمالات التي تحيط بالحدث أو الأحداث المستقبلية موضع الاهتمام. وهذا الوضع ناشئ بطبيعة الحال مما تتسم به الأحداث المستقبلية من” لا يقينية “.وانتهت تلك الحقبة الزمنية الهامّة بهيمنة بريطانيا وفرنسا على معظم البلاد العربية، بعد تقسيمها وتوزيعها بين القطبين الدوليين آنذاك وفق اتفاقية "سايكس- بيكو". كما شهدت تلك المرحلة انطلاقة مشروع الحركة الصهيونية الذي كرّسه التعهّد البريطاني المعروف باسم "وعد بلفور"، والذي تحقّق بإنشاء الكيان الإسرائيلي على أرض فلسطين التي كانت خاضعة للانتداب البريطاني.

 

بريطانيا وفرنسا غاب عنهما درس تاريخ البشرية عموماً بأنّ الشعوب يمكن تضليلها أو قهرها أو احتلالها لفترة من الوقت، لكن هذه الشعوب لا يمكن أن تقبل بديلاً عن حرّيتها، وبأنّ الأوطان العربية لو تجزّأت سياسياً فهي موحّدة في ثقافتها وفي تاريخها وفي همومها وفي آمالها. فهكذا كان تاريخ المنطقة العربية طيلة القرن الماضي: كرٌّ وفرّ مع المستعمر أو المحتل لكن لا خضوع له. كما كان القرن الماضي حافلاً بالحركات والانتفاضات الشعبية المؤكّدة على وحدة الأمَّة أرضاً وشعباً، وإن ازدادت المسافات بين الحكومات والكيانات بعداً.

 

وحينما تولّت الولايات المتحدة قيادة الغرب والقوى الكبرى، كرّرت خطايا المستعمر الأوروبي في أكثر من مكانٍ وزمان، وهي الآن تدفع الثمن غالياً لهذه الخطايا مما يُهدّد دورها الريادي العالمي، تماماً كما حصل مع بريطانيا وفرنسا في آخر حروبهما بالمنطقة، خلال حقبتيْ الخمسينات والستينات من القرن الماضي، والتي كانت مصر فيها تقود معارك التحرّر الوطني من المستعمر الأجنبي.

فالقوى الغربية الكبرى لم تدرك بعد أنّها رغم تجزئة المنطقة العربية والهيمنة عليها، ورغم وجود دولة إسرائيل الحاجز بين مشرق العرب ومغربهم، ورغم "العلاقات الخاصة" مع بعض الحكومات، حصلت في المنطقة معارك التحرّر الوطني وثورات الاستقلال وحركات المقاومة ومحاولات التوحّد بين بعض الأوطان، كما حصلت حرب أكتوبر 1973 والحظر النفطي عن الغرب.

إنّ المنطقة العربية تتميّز عن غيرها من بقاع العالم بميزاتٍ ثلاث مجتمعةٍ معاً: فأولاً، تتميّز أرض العرب بأنّها أرض الرسالات السماوية؛ فيها ظهر الرسل والأنبياء، وإليها يتطلّع كلّ المؤمنين بالله على مرّ التاريخ، وإلى مدنها المقدّسة يحجّ سنوياً جميع أتباع الرسالات السماوية من يهود ومسيحيين ومسلمين.

ومما سبق نستطيع القول، أن غاية الدراسة المستقبلية هو توفير إطار زمني طويل المدى لما قد نتخذه من قرارات اليوم . ومن ثم العمل، لا على هدى الماضي، ولا بأسلوب” من اليد إلى الفم “وتدبير أمور المعاش يوماً بيوم، ولا بأسلوب إطفاء الحرائق بعد ما تقع، بل العمل وفق نظرة طويلة المدى وبأفق زمني طويل نسبياً. فهذا أمر تمليه سرعة التغير وتزايد التعقد وتنامي” اللايقينى “في كل ما يحيط بنا، وذلك فضلاً عن اعتبارات متصلة بالتنمية والخروج من التخلف لمجتمعات أمتنا العربية والإسلامية.

دكتور في الحقوق و خبيرفي القانون العام

ومدير مركز المصريين للدراسات السياسية والقانونية والاقتصادية

 عضو  والخبير بالمعهد العربي الاوروبي للدراسات الاستراتيجية والسياسية بجامعة الدول العربية