أن المثقفين لا يشكلون كتلة متجانسة موحدة الأهداف والاهتمامات، بل هم جماعة متنوعة المهام تخترقها المصالح والصراعات الاجتماعية، إلا أن ثمة مشترك يجمعهم بصفتهم عموماً أشد الناس التصاقاً بالمعرفة وأقربهم إلى تحكيم العقل والنقد وأكثرهم استعداداً للتعبير الإبداعي والإنساني عن هموم البشر وتطلعاتهم، ما يضع على عاتقهم في مواجهة حالنا الراهنة بمختلف أزماتها ومآزقها السياسية والاجتماعية، مهمة المبادرة إلى تأسيس وعي تاريخي حول مسائل إشكالية لم تستطع الثقافة العربية التأسيس لها أو عممتها بصورة قاصرة ومشوهة، لعل في هذه الخطوة ما يعيد للمثقف النقدي حضوره ودوره وأيضاً تألقه... إن الحقل الثقافي يختلف عن الحقل السياسي، فالثقافي يتميز بثباته النسبي وبصيرورة ترتبط بديمومة الإنتاج المعرفي بخلاف السياسي المباشر المتغير حسب الحال والأحوال والموصول بالحاضر في جريانه وتطوراته الذي يرتهن في تنوع مواقفه وتبدلها إلى توازن القوى وما تقرره في كل لحظة من اللحظات التاريخية. ومعنى هذا أن تغيير الذهنيات وأنماط الوعي يقتضي فعلاً معرفياً وزمناً أطول من زمن المبادرة السياسية وفعلها المباشر، ولهذا السبب تأتي أدوار المثقفين ووظائفهم ضمن أصول التأسيس الراسخ للمنظومة المعرفية كقاعدة أشمل يمكن أن تستند إليها السياسة الصحيحة في بناء مهماتها وأهدافها. إن الاعتراف بانحسار الإيديولوجية كخيار معرفي وكنمط حياة، والإقرار بلا جدوى خوض الصراعات في مستوى الأفكار والنصوص لإثبات صحة هذا الموقف أو ذاك، يعني بالضرورة تقدم مبدأ مقارعة الحجة بالحجة والوقائع بالوقائع وإتاحة الفرصة لنشر العقلانية في التفكير وتوظيف المنهج العلمي وتطبيقاته العملية من أجل تفسير الواقع الحي وتحليله كظواهر ومشكلات محددة بعيداً عن تأثير الرؤى المسبقة والعوامل الذاتية والتحيز. إن الإنسان بشكل عام مغلوب على أمره إزاء القهر الذي يُمارَس عليه، وعلى حقوقه الأساسية لدرجة قد يظن البعض أنه لا يعي ذلك، وإذا وعاه فلا يملك أدوات مقاومته، والدفاع عن المقهورين هو الدور الطبيعي للمثقف. ولنا أن نتساءل عن تحديات عديدة تواجه المثقف العربي تحتاج منه إلى موقف وجرأة النقد والتناول؛ إذ يشيع لدى المواطن العربي الإحباط السياسي والثقافي وجلد الذات والانكسارات المتوالية والبيروقراطية في حين أن رغبته في حياة ديمقراطية حقيقية هي رغبة صادقة.

كما يُلاحظ ظهور العديد من الهيئات الثقافية التي تتجاوز القطرية والقومية إلى الإقليمية أو الدولية بهدف التأثير ثقافياً في الشرائح الاجتماعية المختلفة، خاصة في البلدان المتخلفة والفقيرة، وذلك بهدف تغير نظم وأنماط الحياة السائد لخدمة مصالح القوى المتحكمة في الاقتصاد والاستهلاك، فأين يقف المثقف أمام هذا الواقع وهذه التحديات؟!

إن اقتصار جهود بعض المثقفين العرب على النقل النظري لأفكار الغرب بحجة الاطلاع على الفكر الغربي، ومواكبة المدنية والحضارة، دون تدبر وإعمال العقل وتخير ما يصلح لواقعنا ومجتمعنا، سيكرس حتماً حالة الهيمنة الغربية على واقعنا ومستقبلنا، وسيبقى المثقف مجرد ناقل فاقد التأثير، وهذا الأمر يتنافى مع رسالة المثقف ودوره في التنوير وقيادة فكر الأمة نحو النهوض بالواقع وصنع المستقبل.

لذلك على المثقف العربي أن يغرس روح التفكير العلمي في مجتمعه، وأن يكون في طليعة الرافضين للاحتواء والقطرية والمحلية، وأن يعيَ أن الانفتاح على العالم لا يعني التبعية، كما يتمثل التحدي الحقيقي للمثقف العربي في قدرته على تخليص المجتمع من إحباط وفشل التجارب السابقة التي تسعى ثقافة الهيمنة إلى ترسيخها ليصبح العجز والفشل جزءًا من مكونات العقل العربي. ن الثورة ستعيد الثقافة إلى وضعها الطبيعي بعد فصلها عن السياسة، فتأميم المجال السياسي منذ ثورة 1252 حمّل الثقافة هموم هامش الهروب من السياسية، حيث أصبحت المنفذ الوحيد للسياسة، وبعد فتح المجال بعد ثورة 25 يناير تم فصل الأوراق وإعادة تحديد المجال، خاصة وأن الميدان شهد ثقافة جديدة لا تنتمي للجماعة الثقافية "ثمة جماعة جديدة أداؤها استعراضي قائم على الارتجال واللغة الجديدة المباشرة." ترتكز هويتنا العربية الإسلامية على مجمل تراثنا الحضاري لذلك تبقى هويتنا في ثقافتنا العربية الإسلامية هي التي تميزنا عن غيرنا من كافة الجوانب، وقد اجتهد الكُتاب والباحثون في تعريف الهوية، فالجرجاني - مثلاً - يعرفها بقوله: "إنها الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمال النواة على الشجرة في الغيب المطلق". وفي الكتابات الأدبية والنقدية والفكرية تعريفات عديدة منها أن الهوية تعبر عن "خاصية المطابقة، مطابقة الشيء لنفسه، أو مطابقته لمثيله"، والهويه هي "حقيقة الشيء.. التي تميزه عن غيره". إن انطلاق المثقف من وعيه لطبيعة مكونات هوية أمته التي ينتمي إليها، وقناعته بهذه المكونات، هو الذي يشكل له خطاب الدفاع عن الهوية، وبرنامج العمل والفكر والإبداع، ليعمل على تحصين ثقافة أمته ضد التيارات الثقافية الغازية، ويدعو لمنطلقات تجديدية مدروسة، تفتح آفاق المستقبل والفكر والأخذ الواعي من الثقافات بما يناسب هوية الأمة للتحسين والتطوير، دون انغلاق على الذات أو استسلام إلى الآخر. من هنا سيدرك المثقف صعوبة الدور وثقل العبء الملقى على عاتقه. إن الإنسان بشكل عام مغلوب على أمره إزاء القهر الذي يُمارَس عليه، وعلى حقوقه الأساسية لدرجة قد يظن البعض أنه لا يعي ذلك، وإذا وعاه فلا يملك أدوات مقاومته، والدفاع عن المقهورين هو الدور الطبيعي للمثقف. ولنا أن نتساءل عن تحديات عديدة تواجه المثقف العربي تحتاج منه إلى موقف وجرأة النقد والتناول؛ إذ يشيع لدى المواطن العربي الإحباط السياسي والثقافي وجلد الذات والانكسارات المتوالية والبيروقراطية في حين أن رغبته في حياة ديمقراطية حقيقية هي رغبة صادقة. كما يُلاحظ ظهور العديد من الهيئات الثقافية التي تتجاوز القطرية والقومية إلى الإقليمية أو الدولية بهدف التأثير ثقافياً في الشرائح الاجتماعية المختلفة، خاصة في البلدان المتخلفة والفقيرة، وذلك بهدف تغير نظم وأنماط الحياة السائد لخدمة مصالح القوى المتحكمة في الاقتصاد والاستهلاك، فأين يقف المثقف أمام هذا الواقع وهذه التحديات؟! إن اقتصار جهود بعض المثقفين العرب على النقل النظري لأفكار الغرب بحجة الاطلاع على الفكر الغربي، ومواكبة المدنية والحضارة، دون تدبر وإعمال العقل وتخير ما يصلح لواقعنا ومجتمعنا، سيكرس حتماً حالة الهيمنة الغربية على واقعنا ومستقبلنا، وسيبقى المثقف مجرد ناقل فاقد التأثير، وهذا الأمر يتنافى مع رسالة المثقف ودوره في التنوير وقيادة فكر الأمة نحو النهوض بالواقع وصنع المستقبل. يقول الكاتب محمد مضية: "إنه في ظروف العزلة والاغتراب اقتصرت جهود المثقفين العرب على مهمة نقل أنساق فكرية من الغرب إلى الوطن العربي أفلحت في تعميق التبعية وإطالة أمدها، وأوهنت طاقة الإبداع وإنتاج المعرفة بالواقع العربي ومشكلاته وقضاياه الحياتية، وأوهنت من قدرة المثقف على قيادة الأمة على دروب النهوض الحضاري وتحرير الإنسان العربي". لذلك على المثقف العربي أن يغرس روح التفكير العلمي في مجتمعه، وأن يكون في طليعة الرافضين للاحتواء والقطرية والمحلية، وأن يعيَ أن الانفتاح على العالم لا يعني التبعية، كما يتمثل التحدي الحقيقي للمثقف العربي في قدرته على تخليص المجتمع من إحباط وفشل التجارب السابقة التي تسعى ثقافة الهيمنة إلى ترسيخها ليصبح العجز والفشل جزءًا من مكونات العقل العربي

والواقع إن الساحة الثقافية التي أتيح لها إن تزدهر وتتوسع في الفضاء العربي والإسلامي هي ساحة الأدب وقد بلغت الساحة الثقافية العربية والإسلامية أوجها في القرن الرابع الهجري – العاشر الميلادي سواء من حيث العلوم والمعارف الممارسة فيها أو من حيث المشاكل التي طرحت للنقاش وتم تداولها بين المثقفين حيث كانوا يمارسون المعرفة النقدية بكل طيبة خاطر وانفتاح ومرونة دون أن يحسوا بالحرج العقائدي أو الخوف من النتائج والانعكاسات الأيديولوجية لعملهم . بل كانوا يتعمدون قصداً الخوض في النقاش حول الأفكار والصراعات اليومية بين العلوم العقلية والدينية بكل إكراهاتها. ومن أمثال هولا الجاحظ، وأبو حيان التوحيدي وأبن رشد ، والغزالي ، وغيرهم كل علي طريقته وحسب وجهة نظره . ولابد لنا من الإشارة والإشادة بالدور الحاسم الذي لعبة الفلاسفة في تدشين الموقف النموذجي الذي أدى في الغرب إلي ظهور ما ندعوه بالمثقف الذي يتحلي بروح مستقلة عاشقة للاكتشاف والتحري وذات نزعة نقدية واحتجاجية تعمل بأسم حقوق الروح والفكر فقط. كما تجب الإشارة إلي انعكاس عمل هولا الفلاسفة علي كافة مجالات العلوم والمعرفة التي كانت سائدة في تلك الفترة .

 

 

رئيس مركز المصريين للدراسات السياسية والقانونية والاقتصادية

 عضو  والخبير بالمعهد العربي الاوروبي للدراسات الاستراتيجية والسياسية بجامعة الدول العربية