أن التنافس الإيديولوجي بين القوتين العظميين اليوم يشبه تنافس الأمس شبها لافتا: من ناحية، بريطانيا أمس وأمريكا اليوم بنظامهما السياسي الديمقراطي الذي يجعل الحكومات مسئولة لدى البرلمان وقابلة للعزل بالانتخابات الشعبية، ومن ناحية أخرى ألمانيا أمس والصين اليوم بنظامهما الذي يجعل الحكومة معينة تعيينا وغير قابلة للزحزحة وغير مسئولة لدى أحد. من ناحية، صحافة حرة وجمهور منفتح، ومن ناحية أخرى مجال عام مغلق موصد تتحكم فيه الرقابة وقيود الدولة البوليسية. هذا إضافة إلى تأثير النزعة القومية الوخيم، حيث ‘تشابه قعقعة السلاح الصيني اليوم بشأن الجزر المتنازع عليها حدة شعارات القيصر فيلهم الثاني وعنف خطبه الزاعمة قبل 1914 بأن لألمانيا حقا في إفريقيا والشرق الأوسط’.

تواصلت ثقافة التعايش الملغوم مع حروب دولتي الشمال والجنوب السابقتين على الوحدة اليمنية، وحتى لحظة إشهار الوحدة المقرونة بتعددية سياسية حالمة عند البعض، ومُخاتلة في العمق لدى المُنخرطين في الثقافة السياسية النمطية، ولقد تاق النظام دوماً لتذويب مفاعيل التعددية السياسية، فلم يقدر على ذلك، بل إن من المفارقات المثيرة في تاريخ الحركة السياسية اليمنية المعاصرة أن النظام صُدم في ذروة أيام الانتفاضة الشبابية الشعبية حين اكتشف على حين غفلة من الدهر أن قطاعاً واسعاً من أعضاء حزبه وحلفائه كانوا بمثابة كتل سياسية متراصة داخل حزبه بالذات، وهو الأمر الذي قد نجد له موازيات غير معلنة حتى اللحظة.

وخاصة في إطار حزب الإصلاح الذي يتمظهر بوصفه المُعبر عن تيار الإسلام السياسي، لكنه قد يتجاوز ذلك ليعبر عن أبعاد أخرى غير مشابهة لحالة الإسلام السياسي الاستيهامي الأيديولوجي في بعض البلدان العربية. ومن عجائب الدهر أيضاً أن النظام التونسي على عهد الرئيس السابق زين العابدين بن علي اتَّسم بثقافة بوليسية مُقطَّرة، وهذه الثقافة بالذات انتشرت بمتوالية صاعدة، فاختلط فيها المعقول باللا معقول.

نعم.. سقطت تلك الأنظمة بذات الأدوات التي ارتهنت لها، فقد سقط نظام صالح بأدوات التعددية التي تصورها ومستشاروه قابلة للمحاصرة، وسقط نظام العقيد القذافي بذات المنهج العنفي السيكولوجي الذي رأيناه في صور السحل والطعن والقتل، أثناء تعذيبه وقتله، ومن اللافت أن ذات الأسلوب كان يتبعه النظام في كيفية التخلص من معارضيه الذين كانوا يُسلَّمون للسحل والتعذيب والطعن والإهانة من قبل معسكرات الجنود المُطالبين بتنفيذ ذلك النوع من القصاص البدائي السيكوباتي. الانهيارات المتتالية لسلسلة من أنظمة العرب الجمهورية الاتوقراطية ما كان لها أن تسفر عن بديل ناجز قياساً بمنطق التاريخ وقوانينه الموضوعية، فكان الحاصل ما رأيناه من فراغ سلطوي عطَّل دور المؤسسات، وفتح الباب لفوضى عارمة في الشارع، وقلَّل من هيبة الدولة ومؤسساتها.. لكن هذه التداعيات لم تكن مجرد سياق منطقي للانكشاف الكبير الذي تلا سقوط الأنظمة، بل كان أيضاً وضمناً تعبيراً عن تناطح ثيران الاستقطاب السياسي، والتمترسات الضيقة التي غادرت مفهوم الوطن لتلتحق بركب الفئة الصغيرة، وتبرر ما تذهب إليه من تجاوز للسياق العام للتطور. وهذا الرأي يفسّر عدم إقدام إسرائيل على ضرب إيران، رغم أنها هدّدت في أكثر من مناسبة بأنها ستقوم بذلك، سواء وقفت الولايات المتحدة إلى جانبها أم لا، وفي ذات السياق لعبت إيران، الباحثة، عن مدخل إلى الشرق الأوسط والمنطقة العربية عموما، على ورقة الصراع العربي-الإسرائيلي، وحاولت أن تظهر في مظهر "عدو" إسرائيل اللدود، والداعمة الرئيسية للقضية الفلسطينية. لكن الخفايا تبطن عكس الظواهر، فإيران وإسرائيل، يتعاملان معا وفق سياسة الإخوة الأعداء، وما التصريحات المتبادلة بين الطرفين إلا لعبا سياسيا ودبلوماسية لتحقيق المصالح، مثلما هو الحال مع شعار "الشيطان الأكبر" الذي أطلقته إيران على أميركا، وشعار "محور الشر" الذي أطلقته أميركا بدورها على إيران والدول التابعة لها.

تربط إيران وإسرائيل علاقات اقتصادية متينة، قد تكون تأثرت منذ سقوط الشاه وصعود آية الله الخميني، لكنها بقيت قوية يتم التباحث بخصوصها خلال اجتماعات تعقد في دول أوروبية في سرية تامة. ما يحدث في مصر الآن، مصر ما بعد الثورة، ليس بدعة أو شيئا جديدا أو استثنائيا. فبعد سقوط جدار برلين حدث أكثر من ذلك في ألمانيا الشرقية. وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي حدث أكثر وأكثر من ذلك في روسيا. في حالة ألمانيا، كان الخيال أوسع والثقافة أكثر عمقا وحيوية والعقل المتمرد  قادر على استيعاب التحولات التاريخية وإدراك أهمية اللحظة، فانتهت المشاكل (ومن ضمنها جيوش جهاز الأمن "اشتازي" التي عاثت فسادا في البلاد) خلال وقت قصير للغاية.

أما في حال روسيا، فقد استمرت الكوارث طوال 10 سنوات كاملة: جيوش العاملين في أجهزة الأمن والمخابرات الذين أصبحوا حجر عثرة على كل الطرق، وحربان في الشيشان، وكوارث اقتصادية كادت ترغم روسيا على بيع ممتلكاتها في الخارج (الثلاثاء الأسود الشهير عام 1998 الذي انهارت فيه العملة الروسية بين يوم وليلة). ومع ذلك خرجت روسيا من هذا النفق المظلم. في روسيا، كان الخيال أقل، لأن الرئيس بوريس يلتسين استبدل الخيال بزجاجة الفودكا، وعاث المحيطون به فسادا في البلاد.

لا شيء جديد أو استثنائي فيما يجري في مصر الثورة. فكلها ملفات وقضايا وإشكاليات كانت مؤجلة أو نائمة والثورة لم تتسبب في أي منها. وبالتالي، فالثورة مطالبة كجزء أساسي من مهامها بالتعامل مع تلك الملفات والقضايا والإشكاليات. التعديلات الدستورية ليست كافية، والانتخابات البرلمانية والرئاسية المقبلة لن تكون كافية. كلها مجرد إجراءات وقتية تُفرَض على أرضية الصراع بين الجمود والخيال، بين الماضي والمستقبل، بين العالم الواقعي/الوهمي والعالم الافتراضي/الحقيقي. على مستوى الكلام النظري والنقاش البيزنطي يمكن أن نجد فروقا كثيرة بين الإخوان المسلمين والسلفيين والتنظيمات الجهادية الأخرى. بل ويمكن أن نستحسن بعض الدعوات ووجهات النظر الفردية من بين هذه التيارات التي يمكن أن نضعها تحت ما يسمى بالإسلام السياسي. ومع ذلك سنرى في أي انتخابات و تحولات اجتماعية أو سياسية أنها في خندق واحد مهما صرح قادتها وأعضاؤها. والمدهش أن هذه التيارات مصرة على التعامل بآليات الماضي مع استخدام بعض الألفاظ والمصطلحات الحديثة، والتسلح بمنطق إعلامي أكثر منه منطقا عقليا. فابتعدت عن الخيال والإبداع.

على الجانب الآخر يحاول اليسار تجديد جلده، ولكن من شدة افتقاده الخيال يقوم فقط بقلب هذا الجلد، لنكتشف أنه يقلب "الجورب" وهو لا يدري أنه قلبه عدة مرات وكلا الوجهين اتسخ تماما. نفس الآليات ونفس الوجوه ونفس "الدكاكين" تحت مسميات جديدة وكلمات براقة. ولكن لا خيال ولا إبداع حقيقيين يمكنهما إنجاز ما أنجزه شباب الثورة الذين ساروا بين شعب كامل، وليس أمامه أو فوق رأسه أو على أكتافه، في ميادين وشوارع المدن والقرى المصرية.

الخيال الآن هو بطل المرحلة وعدو النزعة المصرية التقليدية المحافظة. المحنة كبيرة وموجعة، لأن ما حدث ليس بسيط أو قليل. وبالتالي، فالنفق ليس قصير كما يتصور البعض: سيأخذ ألوانا متدرجة من الأسود إلى الرمادي. ومحنة مصر الآن في ثورة مضادة ومحاولات قفز على السلطة وسعي للتمسك بها أيضا. محنة مصر في التحديين الإقليمي والدولي. هل يتصور البعض أن يقوم المصريون بثورة، في القرن الواحد والعشرين، لا تثير قلق بعض القوى الإقليمية والدولية؟! أما المحنة الأكبر فهي في السعي الحثيث لتحويل ما يؤمن به المصريون إلى شكل من أشكال الانتماء العرقي.

كاتب المقال
دكتور في الحقوق و خبيرفي القانون العام

ومدير مركز المصريين للدراسات السياسية والقانونية والاقتصادية

 عضو  والخبير بالمعهد العربي الاوروبي للدراسات الاستراتيجية والسياسية بجامعة الدول العربية 

 

الاراء المنشورة ملزمة للكاتب و لا تعبر عن سياسة البوابة