عبد الستار العايدي

رغم ضعف صدى صوتها، سحب الخريف الأولى للمشهد السياسي التونسي وللديبلوماسية التونسية بعد فترة الصمت القصيرة التي أعقبت صخب الاستفتاء على الدستور الجديد قد بدأت تلوح في الأفق خاصة وأن إستحقاق الانتخابات التشريعية وأساسها القانون الانتخابي سيكون محور الجدل الرئيسي لأطياف المشهد السياسي  في المستقبل القريب، فتواصل أزمة العلاقات الديبلوماسية بين تونس والولايات المتحدة الأمريكية بعد تصريحات بعض المسؤولين، وزير الخارجية انطوني بلينكن وسفير أمريكا بتونس الجديد جوي هود ووزير الدفاع الأمريكي، قد فتحت الباب مجددا أمام معارضي مسار قيس سعيد وخاصة حركة النهضة التي سارعت لإصدار بيان لها للتأكيد على موقفها السابق والمتماهي مع الموقف الأمريكي.

تصريحات المسؤولين الأمريكيين المتواترة والمتوترة بالتزامن مع تقدم المفاوضات بصفة إيجابية بين تونس وصندوق النقد الدولي تطرح نفس الرؤية للوضع السياسي في تونس وسياسة الأمر الواقع التي فرضها قيس سعيد على المشهد وأطيافه، هذه الرؤية التي ترفض التأسيس لنموذج ديمقراطي تونسي خالص دون أن يكون للإدارة الأمريكية أي تواجد داخله، استنادا الى تأكيدها من خلال هذه التصريحات أنها لن تبقى مكتوفة الأيدي وستسعى للوقوف إلى جانب المعارضة والرافضين لرؤية قيس سعيد لتشكيل مشهد سياسي تعتبره هو المشهد الحقيقي والأجدر لتطبيق النموذج الديمقراطي العالمي، بالطبع حسب ما تراه الإدارة الامريكية صالحا لخدمة مصالحها الاستراتيجية القديمة والمستجدة، ورغم ان حدة الخطاب الأمريكي قد تجاوز الديبلوماسية من المرونة إلى مزيد من الحدّة وذلك بعد تصريح وزير الدفاع لا تزال أمريكا تمسك بطرف الخيط الثاني وهو عدم التفريط في تونس كشريك في الحلف الغربي، السياسي والعسكري، وأن خروجها يعني خسارة مهمة بعد تواصل تأزم العلاقات الجزائرية الأمريكية إثر إعتراف الأخيرة بحق المغرب في الصحراء الغربية بعد إمضاءه على العقد الابراهيمي والتطبيع مع إسرائيل.

هذا القلق الأمريكي الذي أصبح معروفا بعد تراجع دورها الديبلوماسي والعسكري دوليا في خضم الحرب الروسية الأوكرانيةّ،   يؤكد خوف أمريكا من التمدد الروسي داخل مناطق تواجدها الإستراتيجي في شمال إفريقيا وإتساع الهوة بينها والجزائر بعد رفضها المشاركة إلى جانب تونس والمغرب في المناورات العسكرية الأخيرة وإجراء مناورات عسكرية موازية مع روسيا، فتصريح السفير الأمريكي بتونس حول "مساعدة التونسيين والتخفيف عن أعباء وآثار الحرب في أوكرانيا سواء ما يشمل المسألة الاقتصادية أو السياسية" هي دليل آخر على أن القلق الأمريكي ليس في كل جوانبه يخص المشهد السياسي التونسي ولكن ما سيطرحه النظام السياسي الجديد الذي يسعى قيس سعيّد لتأسيسه من تأثيرات على مستوى العلاقات الديبلوماسية بين البلدين مستقبلا بعد تأكيده في كل مرة على التعامل بنديّة ودون التدخل في شؤون تونس الداخلية وهو نفس الموقف الذي اتخذته الديبلوماسية الجزائرية في علاقة بما تسعى له أمريكا في المنطقة عسكريا وإقتصاديا وهو ما دفع بوزير الدفاع الأمريكي لإعلان موقف في شكل تهديد خفيّ أن المسألة السياسية قد تكون هي كذلك سبيلا لقطع علاقات التعاون العسكري بين البلدين.

قلق أمريكي يستتبعه قلق فرنسي وذلك خلال مكالمة هاتفية جمعت قيس سعيد وماكرون وكانت المسألة الاقتصادية اهم محاور هذه المكالمة خاصة بعد أن كشفت المؤشرات الاقتصادية مؤخرا أن إيطاليا أصبحت الشريك الاقتصادي المتميز لتونس وإرتفاع نسب المعاملات الاقتصادية بصفة مهمة على نحو غيرمسبوق، تطور ملحوظ في العلاقات الاقتصادية بين البلدين بعد إعلان الجزائر وإيطاليا الوقوف إلى جانب تونس خلال الزيارة التي اداها الرئيس الجزائري إلى إيطاليا، قلق فرنسي حول المسألة الاقتصادية يخفي ضمنيا هو كذلك خوفا من أن نظام قيس سعيد الجديد هو الطريق لتآكل الوجود الفرنسي في تونس. 

وبعد إجتماع أغلب مواقف عدد من السياسيين ومكونات المجتمع المدني على أن هذه التصريحات هي تدخل واضح وصريح في شؤون تونس الداخلية والمسّ من سيادتها، يسارع قيس سعيّد لقطع الطريق أمام المحاولات الداخلية لزعزعة المسار السياسي الحالي بعد ثبات أولى أسسه بتوقيع عقد إجتماعي بين الحكومة والشريكين الاجتماعيين الفاعلين، الاتحاد العام التونسي للشغل ومنظمة الأعراف، عقد يضمن ولو خلال الفترة السابقة للانتخابات التشريعية عدم عودة صخب المعارضة إلى السطح بنفس الدرجة التي رافقت صياغة الدستور والاستفتاء حوله، خاصة بعد بيان حركة النهضة الذي تؤكد فيه مرة أخرى على موقفها من المسار السياسي وتشير فيه كذلك إلى أن السلطة التنفيذية لازالت تتبع سياسة التضليل العامة للشعب حول المسائل الاقتصادية، سبق هذا العقد الاجتماعي تأكيد الحكومة على أن مسار العدالة قد عاد لنصابه بعد فوز قيس سعيد في تطهير هذا المرفق وأن قرار المحكمة الادارية ببراءة عدد كبير من القضاة المتهمين بشبهات الفساد دليل واضح على نزاهة وشفافية هذا المرفق الذي كان الفساد ينخر كل أجهزته، نقطتين لقيس سعيد وحكومته تؤكد أن المسار السياسي الحالي في التأسيس للإصلاحات الكبرى لأجهزة الدولة والإقتصاد يكاد يكون متطابقا مع الرؤى الفرنسية والأمريكية السياسية لمسألة النظام الديمقراطي الحقيقي ولكن دون تدخل خارجي ومع مطالب صندوق النقد الدولي الإقتصادية التي تنادي بضرورة إصلاح مؤسسات الدولة لبناء أساس إقتصادي متين خاصة وأن المرفق القضائي سابقا حسب رئيس الدولة هو أحد الأسباب فيما يتعلق بالتعامل مع قضايا الفساد الاقتصادي .

بين النموذجين الفرنسي والأمريكي لشكل النظام السياسي في تونس وأنموذج قيس سعيّد محلّي الصنع، تكاد أسباب القلق أو الصراع تتّضح وهي أن النظام السياسي القائم لن يستمرّ طويلا في ظلّ إقصاء علني ودون رجعة لأغلب الأطراف السياسية التي تلعب دور شريك في إرتباط بمنظومة العلاقات الدولية، بشكل واضح أمريكا وفرنسا لن تعلنا عن الرضا التام لشكل الدولة الحالي دون وجود الأطراف التونسية المرتبطة بهما ضمن هذا المشهد وهذا ما سيضمن عدم إنفلات العقد السياسي والعسكري بين تونس وهذين البلدين.