حميد زناز

تسلل الفساد كمرض عضال الى جميع الطبقات الاجتماعية والمؤسسات وذلك بداية من السنوات الأولى لاستقلال الجزائر.  ومع مرور السنوات امتدت مخالب هذا الأخطبوط الى كل القطاعات الحيوية وعلى وجه الخصوص الإدارة ومؤسسات القطاع العمومي.

في كتاب من 442 صفحة صدر بباريس في مطلع هذه السنة تحت عنوان: من السم الجزائري الى عبقرية أمة / رسالة الى رئيس الجمهورية الجزائرية، حاول البروفيسور صديق لرقش العودة إلى أصل داء الفساد ليشرح للرئيس وللقارئ معا لماذا وكيف سقطت الجزائر بين فكي هذا الغول الذي عطّل التنمية الاقتصادية والسياسية والحقوقية. 

عرف الفساد في البلد حسب الكاتب أربع مراحل كبرى: فترة الرئيس هواري بومدين، الذي جاء بمشروع تنموي طموح غداة الاستقلال جنّد له كل موارد البلد في شراء المصانع الجاهزة من الخارج وشهدت هذه الفترة ظهور أول فاعلين جزائريين امتهنوا الوساطة في المعاملات الدولية واستطاع بعضهم أن يبني استراتيجية فساد غنم منها أموالا طائلة ومن هذه الثغرة ظهر اول أثرياء الجزائر. ثم جاءت فترة الرئيس الشاذلي بن جديد في بداية 1980 وعمّ الفساد في جزء كبير من العقود الدولية وحتى داخل الوطن في الأسواق العمومية. وتأتي الفترة الثالثة مع بداية العشرية السوداء حيث استمر سم الفساد ينخر الاقتصاد الوطني عبر احتكار سوق السلع الأساسية المستوردة من طرف بعض الجهات بدعم من مسؤولين فاسدين.  وفي الأخير كانت فترة عبد العزيز بوتفليقة ابتداء من سنة 2000 حيث تضاعف انتشار الفساد بكل اشكاله ووصل إلى أعلى هرم السلطة وأصبح ظاهرا للعيان بظهور اوليغارشية متنفذة لا تتورع في عرض ثرائها الفاحش. 

إذا كان من الصعوبة الوقوف على السم الجزائري المتغلغل في كل مفاصل الحياة الاقتصادية والإدارية والسياسية نظرا لتمظهره في اشكال عديدة واستراتيجيات معقدة يصعب تحديد هوية الفاعلين وطرقهم التمويهية، إلا أننا، يقول مؤلف الكتاب البروفيسور صديق لقرش، يمكن أن نكتشف حيل هذا الداء وتقلباته في مجالات عديدة من أهمها تعيينات المجاملة والصداقة والقرابة وعلى الخصوص في مجال الديبلوماسية والوظائف الوهمية التي تعد بالمئات كل سنة.  الاختلاس المتنوع والاحتيال مثل المنح الدراسية للخارج إذ استفاد العديد من أبناء كبار المسؤولين في النظام من تلك المنح والتي غالبًا ما يتم إصدارها بطريقة مبهمة. تمثل هذه المخصصات عشرات الملايين من اليوروهات سنويًا، وتنتج خيبة أمل في عالم الطلاب المدركين للامتيازات التي يتمتع بها بعض (أبناء عصابات النظام) على حساب الجميع. 

أصبحت الصفقات العمومية والحكومية المزورة هي القاعدة تقريبًا في جميع مناطق البلاد فغالبًا ما تكون المناقصات الوهمية لصالح جهات فاعلة بالتواطؤ مع الفاسدين في النظام. أما الاستحواذ على الأراضي الزراعية والصناعية بأسعار رمزية فكان في كثير من الأحيان بتواطؤ مع كبار المسؤولين، وهو ما مكن كثيرون من جني أرباح طائلة في أقل وقت ممكن.  وأما ما نشر سم الفساد أكثر فأكثر فهو ظاهرة فساد السياسيين والدبلوماسيين.  ففي الانتخابات التشريعية لعام 2017 على سبيل المثال، وافق عشرات الطامحين في دخول البرلمان على دفع مبالغ مالية كبيرة من أجل الحصول على ترشيح على قوائم الأحزاب الكبرى كما أن بعض الموظفين في السلك الديبلوماسي وغيره يشترون تعييناتهم.  ونقرأ في الكتاب عن الإفراط في تضخيم فواتير الواردات وانخفاض فواتير الصادرات وهذا ما أدى إلى تسهيل هروب رأس المال الى الخارج بشكل كبير.  

 كما نقرأ عن منح القروض البنكية دون أي مبرر اقتصادي حقيقي إذ أصدرت المؤسسات المالية قروضاً بعشرات المليارات من الدولارات بناءً على أوامر من السلطات العليا دون احترام الحد الأدنى من القواعد الاحترازية التي تسمح للمستفيدين بتحويل مبالغ ضخمة إلى الملاذات الضريبية. ويشير المؤلف الى انتشار رهيب للعمولات الخفية للوسطاء الجزائريين والأجانب في عقود البيع والشراء على نطاق واسع وكيف تم تجميع الملايين بالعملة الصعبة بعيدا عن السلطات الضريبية الجزائرية، مهربة الى الخارج ومستثمرة في تبييضها عن طريق الاستثمار في العقارات.   

ويبقى سوق السيارات الملفت للنظر أهم مثال على تغول الفساد في الجزائر حسب صاحب الكتاب إذ يشتبه في بعض الفاعلين انهم دفعوا عمولات كبيرة جدا للدخول في هذا الميدان المربح للغاية.   ولهذا السبب فإن السيارة المنتجة في الجزائر أصبحت تكلف أكثر من ثمن استيرادها. 

يستنتج البروفيسور صديق لرقش أن حجم الإنفاق في الجزائر قد بلغ خلال العشرين سنة الماضية ما يقارب 1000 مليار دولار وقد وصلت العمولات والوساطة والتكاليف الإضافية المختلفة الى نسبة 10٪ ويعني أن خسارة الجزائر قد وصلت إلى قرابة 100 مليار دولار نُهبت خلال هذه الفترة على حساب الشعب وهذا هو سبب وجود حاجة ماسة للتدخل لإيقاف النزيف حسب الكاتب ومحذرا أنه من السذاجة إلصاق صفة الفساد برجال النظام فقط. لقد انتشر الفساد بين جميع طبقات المجتمع في تواطؤ بين البرجوازية الصناعية والتجارية، والبرجوازية والتكنوقراطية، وبعض فئات التراتبية العسكرية العليا المقترنة بالمافيا الدولية، مع الصمت المتواطئ لبعض الدول. يكفي قراءة ما تم الكشف عنه في أوراق بَنما لفهم كيف قامت النخبة وبعض الصناعيين الجزائريين المشهورين بسرقة موارد الجزائر.  

فهل تصل الرسالة الى الرئيس عبد المجيد تبون؟ وإن وصلت، كيف يمكن أن تتخلص "جزائره الجديدة" من هذا السم القاتل؟