مثّل ظهور رئيس حركة « النهضة» راشد الغنوشي على قناة «نسمة» فصلا جديدا من مشهد بدأ يأخذ شكل الدراما الإغريقية لجهة ان الغنوشي كان في كل «خرجة» إعلامية مجبرا على سلك طرق ملغومة تهدد في كل لحظة المركب الذي يقله ويقوده الى انفجار قد لا يبقي ولا يذر.

وبدأ يتضح تدريجيا ان رئيس حركة «النهضة» بمعية نزر قليل من إخوانه في التنظيم هم فقط على وعي بمخاطر الطريق .

قليلون هم داخل حركة»النهضة» الذين فهموا واستوعبوا المتغيرات على المستوى الوطني وعلى المستويين الاقليمي والدولي في علاقة بمصير ومستقبل «الاسلام السياسي» على الاقل في تعبيراته التي اقتحمت المشهد السياسي والحزبي في دول عربية وإسلامية الى حد الان .

الغنوشي يعترف بالفشل ؟!

الغنوشي اعترف وانتقد بصريح العبارة هؤلاء في قيادة»النهضة» واعتبر انهم «لم يقدروا على استيعاب المتغيرات «قالها علنا بنبرة تدل على الفشل في إقناعهم وترويضهم وجرهم الى مربع السياسة والناي بهم عن مربع التطرف الذي سيقودهم الى العنف بما قد يعيد انتاج مآسيهم الشخصية والسياسية .

المعلومات الشحيحة التي رشحت عن اجتماعات مجلس شورى «النهضة» ومن هوامشها تؤكد وجود خلافات حقيقية داخل جسم» النهضة» محورها الظاهري ،قضية التصويت في الدورة الثانية لانتخابات الرئاسة ولكن جوهرها الاساسي هو حزمة المشاكل التي تم ارجاء حسمها الى موعد لاحق في المؤتمر الاخير للتنظيم وذلك خوفا من تصدع محتمل بدات ملامحه تبرز للعيان ومن ابرز هذه الإشكاليات قضية الفصل بين الدعوي والسياسي ،وكذلك صراع المواقع .

وبما ان المراهنة على الانتصار في الانتخابات فشل هو الاخر ولم تحصد «النهضة» انتصارا يمكنها من تأجيل جديد لمشاكلها الداخلية ،ازداد الوعي لدى قلة من قيادات «النهضة» بضرورة الانخراط الفعلي في المنظومة المدنية والسياسية وبضرورة الانفصال التدريجي عن الجانب الدعوي ،وفي مقابل ذلك ترسخ الاعتقاد لدى مجموعة هامة من قيادات التنظيم بان الحل يتمثل في العودة بالحركة الى «اصول عقيدتها» السياسية والايمانية والتقت هذه المجموعة موضوعيا و»مصلحيا» مع قيادات اخرى اختلفت درجة تورطها خلال فترة حكم «الترويكا» في قضايا ومسائل وتصريف امور تراوحت بين تهم الارهاب والتغاضي عنه وشبهة الفساد بالنسبة للبعض.

زراعة الفتنة ومزايدات !!! 

هؤلاء من» النهضة « وجدوا ضالتهم وحليفهم في المترشح المنصف المرزوقي الذي استطاع ان يخلق الأزمة داخل «النهضة»ويحصر في الزاوية رئيس الحركة راشد الغنوشي وبعض مريديه ومعاونيه والذين اجتهدوا كثيرا في الفترة الماضية من اجل انقاذ ما يمكن انقاذه .

المرزوقي نجح في اللعب على تناقضات «النهضة» وزرع بذرة الفرقة والانشقاق داخلها وبالطبع كل هذا من منطلق توفير ما من شانه ان يوصله الى كرسي الرئاسة وليس خوفا على حركة سياسية قد يقطع معها في اقرب وقت ممكن وفي اول مناسبة تقتضيها مصلحته الشخصية ،فمن المعلوم ان المرزوقي لا تحركه الا مصلحته الشخصية جداً ..

مصلحة المرزوقي هي الرئاسة فهي حلمه الاول والأخير وهي بالنسبة اليه الهدف في حد ذاته ،ولا نعرف ان المرزوقي أتقن ذات يوم التعاطي مع مجموعة او جماعة فهو أسس حزبا ثم اسقط العديد من رفاقه المؤسسين في طريقه الى تحقيق أهدافه الشخصية وانفرط الحزب الى احزاب وافراد وأركب ما تبقى من حزبه كل من وافق هواه ونزواته فضلا عن آخرين ألقت بهم «النهضة» إليه لضمان الولاء والتحالف ولكن هذه الحركة السياسية على عراقتها لم تتمكن من رصد خطط المرزوقي الجهنمية .

المرزوقي روّض الكل داخل حزبه وزايد على «النهضة» في علاقاتها الإقليمية والدولية وخصوصا مع قطر ،ثم راهن على جناح متطرف من داخل «النهضة» وارتبط بكل ما هو متشدد ومتطرف وعنيف واقصائي في المجتمع ،حتى انه أفلت جديا عن رقابة حليفته «»النهضة»ويكاد يكون اصبح في حد ذاته تنظيما موازيا لها وللدولة . 

من هو المرشح الأصلح ؟!

كل هذا هو بالتأكيد كان حاضرا في ذهن الغنوشي وهو يتحدث الليلة قبل الماضية وهو ما يفسر تبعا لذلك بعض الإشارات الدالة على ان وعي الرجل ومصلحته ومصلحة حزبه استقرتا على دعوة جمهور «النهضة» الى التصويت لمن يرونه «الأصلح لتونس» ..والاصلح في تقدير الغنوشي هو :

-من باستطاعته ان يحافظ على وحدة تونس وسيادتها وهو ليس المرزوقي كما نرى

-من لا يتبنى خطاب التفرقة وزرع الفتنة بين التونسيين وتقسيمهم، وهو ليس المرزوقي فيما نعتقد

-من يسعى الى تكريس الاستثناء التونسي والمحافظة على التوافق، وهو ليس المرزوقي فيما يذهب الظن 

-من لا يسعى الى تكريس الجهوية المقيتة ،وهو ليس المرزوقي فيما نحن متأكدون

- من سيعترف بالنتائج مهما كانت ولنا في مواقف المرزوقي وحملته ما ليس في صالحه 

الغنوشي أيضاً اسقط اهم مقولة بنى عليها المترشح المنصف المرزوقي خطابه الانتخابي وهي «مخاوف عودة الاستبداد» بتاكيده على استحالة الرجوع الى الوراء معتبرا ذلك من باب المزايدات الانتخابية،

وهو أيضاً اسقط صفة الاستقلالية عن المرزوقي فهو كما اعلن عن ذلك مرشح حزب اخر وليس مرشح «النهضة» ولم ينظر بعين الرضى الى كون هذا الاخير يتوجه مباشرة الى جمهور» النهضة» معتبرا ذلك «غير لائق « لان الاخلاق تقتضي «دخول البيوت من أبوابها».

مؤشر اخر يدلل على راي الرجل في مسالة ما سمي «بالتغول» وهو راي لا يذهب في اتجاه مصلحة المرزوقي، اذ قدر الغنوشي ان «الاصل في الاشياء هو الانسجام بين الرئاسة ورئاسة الحكومة لان إدارة التعدد صعبة وان كانت غير مستحيلة».

كل هذا يؤشر لموقف من التصويت لمترشح دون اخر ولكن رئيس «النهضة» لا يستطيع ان يذهب اكثر من ذلك لان هذا من شانه ان يؤجج الصراعات داخل حزبه،ويغذي انشقاقات محتملة ، تماما مثلما ان سكوته وعدم ادلائه باي تصريح او موقف سيحرم «النهضة» من فرصة تدارك أمرها وتجنب سيناريو مواجهة مع المجتمع المدني والسياسي لن تكون بالضرورة في صالحها.

فشل السباحة ضد التيار المدني

الغنوشي يعرف بالتأكيد ان الوضع على الارض لا يخدم بالضرورة موقفه في ضوء سعي جهات قيادية من «صقور» النهضة الى تنسيق مواقفها مع «حزب المؤتمر» ومع شخصيات دينية متطرفة وحتى مع ما يسمى «بروابط حماية الثروة»وذلك من اجل دعم المترشح المرزوقي والتحضير لسيناريوهات التشكيك والفوضى في حال الفشل في الوصول الى قصر قرطاج ومعلومات ومؤشرات ذالك عديدة.

وبالطبع فان وعي المجتمع المدني والسياسي اجهض خطاب الحقد والجهويات في مرحلة اولى وتصدى للتشكيك الاستباقي في نتائج الانتخابات الرئاسية في دورتها الثانية كما ساعدت النجاحات الأمنية والعسكرية في القضاء على بؤر الارهاب والإرهابيين ،فضلا على بداية التغير في موازين القوى على الارض في ليبيا وكل هذا لم يخدم بالطبع استراتيجية المرزوقي التي راهن فيها على الفوز او على الفوضى في حال عدم فوزه بالانتخابات.

هذا أيضاً كان بالتأكيد حاضرا في ذهن الغنوشي وهو يتحدث على قناة «نسمة» ولكن الفشل في حشد المؤيدين للوعي بهذه المتغيرات داخل مجلس شورى «النهضة» اضافة الى ما تردد من وجود ظغوطات اقليمية ودولية فرض عليه التحدث مباشرة الى جمهور»النهضة»من خلال فضاء إعلامي وكذلك هي مناسبة اخرى للتوجه بخطابه الى «نداء تونس».

رسائل الغنوشي الى الباجي قايد السبسي

الرسائل التي وجهها الغنوشي الى الباجي قايد السبسي كثيرة بعضها واضح وبعضها الاخر مشفر ولكنها في مجملها هي دعوة منه اليه لمساعدته على تمكينه من ادوات للاقناع داخل حركته .. 

ومحتوى هذه الرسائل يحوم عموما حول ضرورة تشريك «النهضة» في الحكم «وعدم تركها في المعارضة «لما في ذلك من مخاطر على استقرار تونس» خصوصا في ضوء الوضع الامني الهش « وان كان الغنوشي غلف هذا المطلب بان» لا احد باستطاعته الحكم بمفرده وبان الحكم بأوسع وفاق وأغلبية افضل من الحكم بأغلبية بسيطة» فانه بدا من الواضح ان هذا المطلب فيه من الاستغاثة اكثر ما فيه من النصيحة .

من الجلي أيضاً ان الهم الاساسي للغنوشي هو انقاذ حركته من الاندثار لانه على وعي تام بان دخولها في عملية شد او صدام مع المجتمع او مع جزء كبير منه في هذا التوقيت بالذات الذي يتميز بانحسار حجم الدعم الاقليمي والدولي لها وللإسلام السياسي عموما هي مغامرة كبرى غير محسوبة العواقب وقد تؤول الى القضاء على اخر المعاقل التي قد تصلح قاعدة انطلاق جديدة في مرحلة مستقبلية على المدى المتوسط والبعيد خصوصا اذا قامت حركات الاسلام السياسي بالمراجعات الضرورية التي تمكنها من الاندماج في النسيج المدني والسياسي لبلدانها .

محدودية تحرك الباجي وحتمية الجراحة

من جهته ،يبدو أيضاً ان المترشح الباجي قايد السبسي واعٍ بدقة بالمتغيرات وبمقتضيات المرحلة وهو ليس على استعداد لتقديم هدايا مجانية لحركة ما زالت لم تعقد العزم على القطع النهائي مع العنف كوسيلة للعمل السياسي ولم تقم أيضاً بالمراجعات النظرية الضرورية لذلك ولم تحسم أمرها مع ازدواجية الخطاب والتنظيم.

الباجي قايد السبسي يحتاج أيضاً لاقناع حزبه وحلفائه ان تكون «حركة «النهضة»واضحة في هذه المسائل الاساسية من اجل القبول بها كحركة سياسية مدنية والاقناع بذلك .

وماهو مطلوب من «النهضة « الان هو مدى استعدادها للقيام بهذا المجهود لان الأخطاء التي اقترفتها في حق الدولة والمجتمع خلال فترة حكمها في السنوات الثلاث الاخيرة وحتى قبلها هي نتيجة منطقية لعدم حسم هذه المسائل الاساسية لبناء حزب سياسي يقبل بقواعد اللعبة الديمقراطية.

وهو مجهود يقتضي منها الاقتناع بان الجراحة علاج حتمي لا مفر منه وبان النصيحة «الطبية» التي يسديها الغنوشي من حين لآخر وفي اوقات الأزمات لحزبه وللمتشددين داخله هي مجرد مسكن قد لا يفي بالحاجة الان بما يتوجّب اللجوء الى الجراحة . 

الامتحان الاخير ؟!

الانتخابات الرئاسية الحالية هي الامتحان الاخير لفهم هذه المسائل من اجل التصرف وفق ما تقتضيه المرحلة،وفي غياب ذلك وبالتمادي في الانقياد وراء مغامر همه في الحياة الرئاسة قد تتجدد سيناريوهات إقليمية ويعيد التاريخ القريب نفسه ولكن في شكل دراما ومأساة هذه المرة .

والغنوشي يعي هذا الامر تماماً وهو الذي قال لي ذات يوم ان « الخطيئة الكبرى لاخوان مصر انهم لم يفهموا ما هو مطلوب منهم القيام به ولم يقبلوا بنصيحتي لهم بعدم ترشيح مـرشح للرئـاسة منـهم وقد كان نصحهم بترشيح حمدين صباحي .

الفهم إذن مطلوب وتوقيت اتخاذ القرار في السياسة مهم للغاية وهو الذي يجب ان يقتنع به الغنوشي وغيره، لان امتحان انتخابات الرئاسة الذي نعيشه هو محطة حاسمة من اجل القطع النهائي مع أحلام «الثوار» من اليمين ومن اليسار أيضاً .فكما انه لم يعد مقبولا وجود احزاب مزدوجة الخطاب والتنظيم وتؤمن بالعنف كوسيلة لتحقيق الاهداف السياسية فانه، لم يعد من المقبول أيضاً بأحزاب ما تزال مهووسة بالتعسف على الواقع من اجل إثبات صحة نظريات ليست محل إجماع داخل عائلاتها السياسية والأيديولوجية وتصنفها مراجعها النظرية بـ«امراض اليسار الطفولية» .

دقت ساعة الحقيقة بالنسبة للجميع ويوم الأحد هو يوم امتحان ستكرّم فيه احزاب ومواقف او هي ستهان .