في تاريخنا المعاصر، ثمة قضايا رئيسية وأخرى رديفة، وأحياناً قضية مركزية غالبة .

بعد الحرب العالمية الثانية، كان الاستقلال الوطني القضية الرئيسية، تتفرع عنها قضايا رديفة كبناء دولة الاستقلال، وتنمية الموارد الطبيعية وحسن استثمارها، وتعاون حكومات الأقطار فيما بينها، والثورة على أنظمة الاستبداد من أجل الحرية والديمقراطية .
بعد حرب السويس العام ،1956 أصبحت مقاومة الأحلاف العسكرية قضية رئيسية تطورت مع قيام الجمهورية العربية المتحدة العام 1958 إلى قضية قومية إلى أن انتكست مع فاجعة الانفصال العام 1961 ومع الهزيمة المدوّية العام 1967 .
صعدت قضية فلسطين مع اندلاع المقاومة الفلسطينية أواخر ستينات القرن الماضي إلى مستوى القضية المركزية، وحافظت على مركزيتها إلى أن وقّع أنور السادات اتفاقات "كامب ديفيد" العام ،1978 فأخرج مصر عملياً من حمأة الصراع العربي الصهيوني الأمر الذي شجع "إسرائيل" على شن الحرب على لبنان العام 1982 واقتلاع منظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها من ربوعه وتشريد قياداتها .
مع احتلال الولايات المتحدة للعراق العام ،2003 انهار النظام العربي الإقليمي فعادت هيمنة الغرب الأطلسي لتخيّم على عالم العرب وتغيب معها أو تكاد قضية فلسطين .
إذ تفرّق العرب وفقدوا توازنهم واتزانهم بصراعات مزمنة بين حكامهم، ظنّت "إسرائيل" أن الفرصة مناسبة لتصفية آخر جيب للمقاومة العربية فشنت حربها العدوانية الثانية على لبنان العام 2006 .
بعد الفشل "الإسرائيلي" في لبنان، والفشل الأمريكي في العراق وأفغانستان، وجدت الولايات المتحدة أن النهج الأفعل في المواجهة هو في تنمية الشعور بوجود خطر آخر غير "إسرائيل" يهدد العرب، يتمثّل في إيران النووية، وأن أولوية المواجهة يجب أن تُعطى لها .
انقسام العرب بين أولوية الخطر الصهيوني والخطر الإيراني فاقَمَ الأوضاع الداخلية في أقطارهم سوءاً وفساداً وتشرذماً ما ادى إلى انفجار السخط الشعبي على نحوٍ غير مسبوق في تونس ثم في مصر وبعدهما في أقطار المشرق والمغرب العربيين . هكذا انطلق عصر "الربيع العربي" المزعوم بكل "ثوراته" الشعبية واضطراباته الأمنية وتنظيماته الإرهابية وتداعياته الإقليمية والدولية .
مع انحسار مركزية القضية الفلسطينية وتراجع أولوية الخطر الإيراني، تصاعد حضور الإسلام السياسي بوجهيه "الإخواني" والإرهابي . التيار الإخواني نجح في تونس من خلال حركة "النهضة بالإمساك بالمجلس التأسيسي، كما نجح بتعاونه مع سائر القوى العروبية والليبرالية واليسارية من إقرار دستور ديمقراطي يضع البلاد على سكة الاستقرار والتقدم .
التيار الإخواني في مصر نجح من خلال تعاونه مع المجلس العسكري في استغلال الانتخابات البرلمانية والرئاسية للاستحواذ على السلطة . غير أن انفراد الاخوان بالسلطة بشخص الرئيس المخلوع محمد مرسي، وسوء إدارتهم البلاد والعباد، وإخفاقهم في معالجة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية استولد سخطاً شعبياً كاسحاً ضدهم . كما أن محاولتهم الاستيلاء على مواقع مفتاحية في الدولة استولد نقمة القوات المسلحة وقطاعات واسعة من الشعب . هكذا ترسملت قيادة القوات المسلحة بشخص وزير الدفاع المشير عبد الفتاح السيسي على سخط الشعب الجارف ضد الإخوان المسلمين الذي بلغ ذروته بتظاهرات 30 يونيو المليونية من أقصى مصر إلى أقصاها، فأزاحت مرسي وحكومته ووضعت خريطة طريق للعهد الجديد أنتجت دستوراً جديداً جرى إقراره في استفتاء شعبي بنسبة مئوية عالية، رافقه صعود قياسي في شعبية السيسي وترشيحه بحرارة إلى مقام الرئاسة .
سبق صعود شعبية السيسي ورافقها صعود الإرهاب في سيناء مستهدفاً مواقع الجيش المصري وجنوده، ثم انتقل إلى العمق حيث جرى تفجير مديرية أمن القاهرة كما مواقع أخرى في أحيائها وفي مدنٍ عدة . رأس رمح الإرهاب تمثّل في "جماعة أنصار بيت المقدس" المظنون ارتباطها بتنظيم "القاعدة" . واللافت أن هذه الجماعة كانت تبنّت عملية إطلاق صواريخ على مدينة إيلات "الإسرائيلية" من سيناء الأمر الذي حمل بعض المحللين السياسيين على الشك في أن الغاية من ورائها، ربما، توريط مصر في حربٍ مع "إسرائيل" في وقت تنشغل القيادة السياسية الجديدة بشخص المشير السيسي بمشاكل داخلية معقدة ليس أقلها الصراع الدموي مع الإخوان وتصاعد العمليات الإرهابية . أليس لافتاً كذلك أن يقترن ترشيح السيسي للرئاسة بإقدام "جماعة أنصار بيت المقدس" الإرهابية على اغتيال مساعد وزير الداخلية اللواء محمد سعيد أثناء خروجه من منزله، وأن تتوجه إلى رئيسه وإلى السيسي بالذات بالقول: "ابشر بما يسوؤكم فقد اقترب القصاص"؟
مصر، مواطنين ومسؤولين، تنتظر الكثير من السيسي ولا سيما في ميدان بناء الدولة المدنية الديمقراطية وتنفيذ شعار ثورة 25 يناير الثلاثي: "عيش وحرية وعدالة اجتماعية" . لكن هؤلاء جميعاً سيكتشفون عاجلاً وليس آجلاً أن ثمة أولوية أولى وأجدر بالاهتمام . إنها الإرهاب المتصاعد في وجه الجميع، داخل مصر وعلى امتداد عالم العرب . وقد يجد السيسي نفسه مضطلعاً بدور مستجد هو قيادة دول العرب ضد الإرهاب الذي يقوده تنظيم "القاعدة" وتفرعاته ويستفحل حالياً في العراق وسوريا ولبنان واليمن وليبيا . . . الإرهاب بما هو أولوية أولى عند المصريين والعرب أجمعين .

 صحيفة الخليج