نعم ربطت الجماهير بين السيسي وعبدالناصر ورفعت صورة تضمهما معا‏.‏ لكننا لانري في هذا الأمر أكثر من معني التواصل بين حلقات الإنجاز الوطني‏.‏فقد أقدم الرئيس السادات علي إعلان القطيعة الكاملة مع عبدالناصر ومشروعه, واعتمد خطابا سياسيا جعل من هذه الخطيئة دوره وإنجازه التاريخي.

أما مؤيدوه وخصوم عبدالناصر فقد أدرجوا السادات ضمن عظماء السياسيين بسبب هذه القطيعة لاغير. وجاء مبارك فوصل بالقطيعة إلي حد ما رواه الأستاذ هيكل من مشاعر الدهشة التي اعترت بعض كبار زواره في سنواته الأخيرة وهم يستمعون إلي ما يقوله من أن عبدالناصر هو سبب مشكلات المنطقة. وبهذا فإن مصر لم تعد تعيش علي جميع المستويات- في حالة مؤهلة لعودة الناصرية. والتجارب الوطنية لاتستنسخ والرجال لايتكررون, استنساخ التجارب مستحيل, وهكذا فالسيسي ليس عبدالناصر ولن يكون.
من حق الجماهير أن تقرن بين الرجلين في احلامها ومشاعرها, ومن حق السيسي أن يسعد بهذه المشاعر. لكن ليس من حق بعض النخب الناصرية أو المعادية لعبدالناصر ان تعتمد هذا المعيار لتحديد موقفها من تأييد السيسي أو معارضته. السيسي رجل مختلف لمرحلة تاريخية مختلفة وإنجازات آخري هي التي ستحدد دوره الحقيقي في تاريخ هذا الوطن. ومن أراد تأييده فليفعل ذلك بناء علي هذه الحقيقة دون أي تهويمات أخري وإلا فإن:-
1- عبدالناصر من جيل ثورة1919, الذي كفرت كوادره الرئيسية الفاعلة بما أسفر عنه النظام السياسي- شبه الليبرالي- الذي أعقبها من دستور وأحزاب سياسية أخفقت جميعا في تحقيق الهدف الرئيس لتلك الثورة في إخراج الاحتلال الإنجليزي من البلاد, وأتبعت هذا الفشل بفشل آخر في تلبية الاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية للمواطنين, بل في مجرد المحافظة علي الهياكل الرئيسية للنظم الليبرالية فتكرر حل البرلمان, وإسقاط الحكومات التي تمثل الأغلبية المنتخبة. أما السيسي فهو من أجيال ثورة يوليو التي تدين بوجودها وتأثيرها لعبدالناصر ومشروعه, لكنه ينتمي إلي الفئة الجيلية التي اكتسبت وعيها السياسي في عصر السادات بكل ما حمله من معالم القطيعة مع ذات المشروع. ومهما تكن قدرة السيسي الذاتية علي تجاوز ما تربي عليه, فلا يمكن مطالبته بتجاوزه وإلي حد أن يكون ناصريا علي نحو ما يتوهمه ناصريون عجزوا عن تحقيق طموحهم بأيديهم.
2- وعبدالناصر ظهر في حياة سياسية ترحب بأسباب القوة وبدور الجيش ورجاله حتي أن جميع أحزابها تبارت في تكوين الميليشيات المسلحة وفي استقطاب ضباط الجيش ليكونوا بمثابة أجنحة عسكرية لها, فضلا عن قطاعات حيوية من النخبة والشعب استهوتها التجارب غير الليبرالية مثل النازية والفاشية والشيوعية فباتت جاهزة لحكم الحزب الواحد والقائد الفرد.. إلخ. أما السيسي فيظهر في جو سياسي معاكس لجميع الأمور المتقدمة ولعل هذا نفسه ما سوف يصنع للرجل دوره وقيمته. ولئن كان الالتفاف الجماهيري النادر والإستثنائي حول عبدالناصر كافيا لإقناع العالم بكونه الممثل الشعبي الوحيد لمصر وأمتها العربية وعالمها الثالث, فإن القطاعات الجماهيرية المتعلقة بالسيسي مهما تعاظمت- لن تمنحه إلا سندا مضافا لمشروعية لن يكتسبها إلا من خلال صناديق انتخابات تنافسية حرة, إذا فاز بها أصبح رئيسا بطعم الزعماء المؤسسين للنظم السياسية علي مثال جنرال فرنسا ورئيسها ومؤسس جمهوريتها الخامسة ديجول.
3- وظهر عبدالناصر في أمة عربية تطمح ليوم وحدتها وتمسك بقضيتها الفلسطينية بإعتبارها مناط وجودها وتقرير مصيرها, بينما يظهر فيها السيسي اليوم وقد تناست قضيتها, وتلهت بالأوهام التي مزقت أوصالها.
4- وجاء عبدالناصر والعالم يودع الأمبراطوريتين البريطانية والفرنسية ليستقبل الإمبراطوريتين الأمريكية والسوفيتية مما مكن له من هامش من الحركة السياسية مكنته من القيام بتنمية وطنية في عالم متيم بالمصانع الضخمة والمزارع الكبري, وقيم الملكية العامة والتأميم والعدالة الإجتماعية وحقوق الفقراء, وليس كذلك حال العالم الذي يواجهه السيسي تحت هيمنة أمريكا, التي أصبحت المصدر الرئيسي لتسليح وتدريب القوات المسلحة وأجهزة الأمن, والمستشار الرئيس في أمور الاقتصاد سواء من خلال نصائح صندوق النقد الدولي أو الخبراء المصريين أو معظم النخب المدنية التي تسعي لنيل رضاها, ومصالح كبار رجال الأعمال المرتبطين بها في عالم النيو ليبرالية المتوحش المتيم بالثراء المالي عبر مضاربات البورصة وأموال البنوك. ولا ننسي أنه رغم الأوضاع التي مكنت لمشروع عبدالناصر. فقد تمكنت الولايات المتحدة من هزيمته عام1967, فلما تجاوز الهزيمة الكبري تمكنت- علي الأرجح- من قتله عام1970, ثم من إغواء خلفه السادات للإنقلاب الكامل علي مشروعه, قبل أن تتخلص منه نفسه خشية أن يكون خادعها.
5- وجاء عبدالناصر ومصر طامحة لنهضة شاملة تبلورت مطالبها طوال عقد سابق علي ظهوره. أما السيسي فما زال مجرد أمل جماهيري يطمح لوضع البلاد علي طريق الانطلاق بإيقاف أسباب الفوضي الضاربة في البلاد, ومواجهة الإرهاب الذي يضنيها, وإنهاء السياسات الداخلية والإقليمية والدولية التي انتجت الخراب الذي ملأ ربوعها علي امتداد أربعة عقود ماضية.
السيسي يحتاج لكل صوت يؤيده لذاته ولدوره الوطني المطلوب بلا زيادة ولا نقصان, وهو دور لا يستلزم من الرجل أن يكون عبدالناصر جديد سواء في أوهام خصومه أو في أحلام مؤيديه.

 

صحيفة الاهرام المصرية