من لا يزال ينكر أن ما حدث كان مؤامرة كبرى على ليبيا، وأن الشعب الليبي هو الخاسر، حتى من يظن نفسه بأنه الفائز اليوم، عليه أن يستيقظ.. لقد إنتهى الحلم.

وحسب ما أرى، فإن الفائز الوحيد في هذه المعمعة التي نعيشها، هو من ثبت على مبدأه ولم تُغْرِه الدنيا، فخسر دنياه وفاز بآخرته.

ومن يرى نفسه من هؤلاء فليحمد لله.. 

ومع هذا، فإن الأمر صعب، إن خسارة الدنيا ليست بالأمر الهين، وما يخفف وطأة المصاب إلا رضا الضمير، الذي لا يمكن شراؤه سوى بهذا الثمن، بينما يظل السعي وراء الأفضل هو الهدف.. فرضا النفس لا يكتمل بدون بلوغ الهدف، وهو أن نرى من أحببنا في أمان، وأن نرى الوطن في مرتبة يحترمها أهل الوطن وغير أهل الوطن، وأن لا يُهان الليبي أينما حلّ، بل يُقدّر ويُنظر إليه بعين الإحترام.

هذه طريق طويلة، ولكنها ليست مستحيلة.

إن الحرب التي شنها الغرب على القذافي وعلى الدولة الليبية كانت لها أسبابها، ولم تكن أي منها لنصرة الشعب الليبي كما أظهر، ولكن بالمقابل، فالقذافي أيضا ظلم الشعب الليبي، وهذا ما يقرّه ويعترف به الكثيرون ممن ناصروه ووقفوا بجانبه في هذه لحرب الظالمة التي شُنّت على الوطن، فالحجج أثبت الزمن أنها كانت كاذبة، رأوها هم ولم يرها الغالبية من إخوتهم في الوطن ممن وقفوا ضدهم في الجبهة المقابلة.

كل من وافته المنية من كلا الطرفين كان شهيدا، لقد كانت الفتنة كبيرة.. رحمهم الله جميعا وجعل أرواحهم نبراسا نستنير به في الدروب القادمة، حتى لا تضيع تضحياتهم هباء...

لنفكّر معا: ماذا لو لم تقم الثورة؟

وأقول ثورة رغم كل المؤامرات التي صحبتها، لأني هنا أعني من ثاروا ضد الظلم وأرادوا الخير بالبلد، ولا أعني من شاركوا بعلمٍ في المؤامرة التي صحبت هذه الثورة..

إن الحال اليوم أسوأ مما كان عليه الحال من قبل، ولكن السابق لم يكن الأفضل أيضا، وإلا لكان الجميع راضٍ وقانعٍ وسعيد، ولما شعر أحد بظلم أوصله للقناعة بضرورة تغيير النظام.

القذافي كان يحتقر شعبه ويُنقص من قيمته، وقد جاهر بصراحة في عدة مناسبات بعدم ممانعته باستبدال جزء كبير منه بشعوب إفريقيا وغيرها ممن يولونه الولاء، إن هدفه كان كبيرا جداً، أكبر من حدود ليبيا، ولم يختلف في هذا عن هدف الإخوان ولكنه كان في اتجاه آخر.

كان القذافي يسعى لاستبدال الدولار واليورو بالعملة الإفريقية الموحّدة، وأن تتحرر إفريقيا من قبضة عبودية الغرب، بل وتصبح افريقيا قوة اقتصادية وعسكرية كبيرة مواجهة للولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي.

وقد تزامن هذا مع الإنهيار الإقتصادي العالمي، كانت رغبته ستتحقق لولا الثورة ولولا الربيع العربي، والذي تبين أنه "ربيع غربي" وليس "ربيع عربي"، إذ من خلاله انقلبت المعادلة، فانتعش الإقتصاد الغربي وانهار الإقتصاد العربي، وذلك من خلال أبواب كثيرة، الظاهر منها للجميع يكفي، وتمثّل في صفقاتٍ للسلاح مع الغرب، وفواتير للعلاج، وفواتير للدراسة بالخارج، وإستثمار لرؤوس الأموال من هذه الشعوب في المشاريع المتعددة في الدول الغربية المستقرة بدلا من دول الربيع العربي غير المضمون مستقبلها، وكذلك هجرة العقول والخبرات من الدول التي أُطلِق عليها بهتانا إسم دول الربيع العربي إلى الدول التي فعلا أطل عليها هذا الربيع: الربيع الغربي... كل شئ...

لقد خسرنا نحن وربحوا هم..

إن خيرة شبابنا يموتون، يتقاتلون.. بينما نشتري السلاح منهم، ونشترى العلاج منهم.. ونتعاقد على إعادة إعمار ما تدمره هذه الحرب.. معهم!!!!

حقيقتين لابد من ذكرهما هنا: إن الخطأ الأكبر الذي وقع فيه القذافي هو أنه لم يكسب شعبه، وإن من قرر مصير القذافي هو نفسه من قرر مصير صدام حسين..

لقد كان كلاهما على اتفاق مع الغرب بشكل متوازن، ولكنهما انحرفا وأصبحا يشكلان تهديدا عليهم.. وكلاهما تم التخلص منه بعد أن بدت منهما بوادر الرغبة في فضح التعاملات بينهم، والرغبة في الإستقلالية عنهم.

ومن مفارقات القدر أن يأتي نفس المخرج بنفس السيناريو الذي انتهى به الإثنين: أن يُعثر على كل منهما في حفرةٍ تحت الأرض! لقد كانت البصمة واحدة! 

وأترك التعليق هنا لمن يقرأ هذه الكلمات.

ما تلا ذلك لم يكن بمختلفٍ، فما حدث في العراق منذ زمنٍ، هو ما يحدث عندنا الآن في ليبيا: عمليات الإغتيال والتهجير للخبرات، والتفجيرات، وانعدام الأمن، واستنزاف الموارد بالتوازي مع العجز في استثمار مقدرات الدولة محليا وتزايد إستثمارها خارجيا، الأمر الذي بنا اقتصاد الدول الأخرى على حساب الدولتين......

العراق كانت بها أفضل العقول العربية، وهم اليوم إما تحت التراب العراقي أو خارج حدوده.. أما من فوقه فيبحثون فقط عن الأمن والأمان.

أما نحن في ليبيا، فشعبنا قليل العدد، والقضاء عليه سهلٌ جداً، وذلك إما بالحرب، أو بالمرض، أو بالهجرة، أو بالشراء.. وهذا كله يحدث اليوم ونحن جميعا شهود عليه...

اليوم أشارككم هذا الشعور.. وذلك ليس من باب الندم، بل من باب الحزن على شعب غلبه الجهل والجشع، فباع نفسه وخسر الوطن.. ومع هذا لا يزال الأمل في الخلاص من مصير مؤلم قائما، بجهود المخلصين تحت عنوان "الوطن للجميع"...

أدعو الله أن ينير سبيلنا نحو ما يحفظ كرامتنا وشعبنا، ويرفع الراية التي توحّدنا عالياً، لنتخطّى محنتنا ونسمو فوق الأحقاد.. ونتشارك جميعا في بناء الوطن وصون عرضه... 

رحم الله جميع شهدائنا...والله المستعان..