اذا جاز تقسيم العصور التى تمر بها الأمم والدول الى حقب تميز كل واحدة منها, تحت ظروف مرحلية __ قضية أو ظرف تاريخي يفرض أشكالا من السلوك السياسي أو الأقتصادري أو حتى التحول الأجتماعي الذي يأخذ عادة طرائق مختلفة فى التغير __ اذا جاز ذلك فمن المؤكد أن المراقب سوف يقع في حيرة حقيقية وكأنه يدلف الى كهف تحكمه العتمة الأزلية وهو يتخير أسما للحقبة التى تمر بها الأمة العربية !!

لم تعد المعارك السياسية ونحن فى العشرية الثانية من الألفية الثالثة هي صاحبة التحولات , ولا التغييرات الأقتصادية هي اللاعب الوحيد , أختفت الشعارات الرافضة لأي صوت يعلو على صوت المعركة (....) كما لم تعد لقمة العيش _ وما أصعبها _ هي المطلب الرئيس في سعي المواطن العربي وهو يخرج من بيته صباحا ..

فلسطين صارت برنامجا فى الفضائيات.. والعراق فى خبر كان .. وليبيا مجازر تتناسل .. والسودان سودانين والحبل على الجرار .. واليمن تختنق .. وسوريا تنزف وسط الصخب ..والتفط مجرد رقم يتدحرج سقوطا فى مؤشر البورصات .. والتنمية أكذوبة .. والثقافة كماليات لا تستهوى أحدا .. والوحدة ذاكرة متحفية ..

المراقب سئ الحظ يتعثر في عتمة الكهف اللزج , ولن تسعفه الذاكرة المترنحة فى انارة موطئ اقدامه , وسوف يضطر حتما لتلمس طريق الخروج بحثا عن عون يكفيه مشقة العثور على الشفرة السرية وسط ركام الثرثرة .. الحقبة الاستقلالية .. الحقبة القومية .. الحقبة الثورية  .. الحقبة الفلسطينية ..  الحقبة الكارثية .. حقب متداخلة ضاعت خلالها أكثر من ثلاثة أرباع فلسطين وأحتلال لبنان وأحتلال العراق واحتلال جزر طنب الصغرى وابوموسى وتشطير السودان وأحتراق ليبيا وسوريا واليمن , وهاجرت خلالها ألاف العقول ودمار التعليم وتكرست القطرية وتهشمت الثوابت وتبدلت القيم وأهدرت الثروات ..

كانت العصبيات فى تلك الحقب المتلاحقة محمولة على السياسة بتعقيداتها وعقائدها .. والمظاهرات والمسيرات والمهرجانات والملتقيات الخ الخ كانت تبدأ وتنتهى وسط أجواء الهتاف السياسي والعقائدي وشعاراته الملتهبة ..فيما تكشف الأحصاءات والبيانات التنموية العربية عن فجائع كارثية , حيث لم ينجح أحد على هذه الرقعة من الأرض الممتدة من الماء الى الماء فى القضاء على الأمية , مثلما لم ينجح أحد في محاصرة الفقر أو التخفيف من سطوة مخرجاته, وهو ما يهشش نوايا المراقب في وصف الحقبة الحالية بالتنموية مثلا .. وتصاعد مؤشرات الأحتقانات على مجمل الساحة العربية يفقد المراقب رؤية واضحة لمفهوم الاستقرار .

ليس جلدا للذات ولكن محاولة لتأطير المشهد المآتمي الذي تعيشه الأمة منذ نحو قرن ,وهي تتخبط دون بوصلة, حيث لا جدوى , اللهم الا اذا أعتبرنا نسب المشاهدة العالية جدا لبرامج المسابقات الغنائية على بعض القنوات الفضائية العربية هي المؤشر الجديد للبوصلة الجديدة وهو يتحرك صوب حقبة جديدة تفترض ساحة أخرى للفعل , يزيح عنوة مشمولات الحقب القديمة ويؤثث مناخاته المقبلة ببرامج وأجندات أخرى .. العواصم العربية المختنقة بالدماء والعويل تشتبك موسميا مع قنوات فضائية عربية تبث برامج تلك المسابقات التى تتنافس فيها مجموعات  منتقاة من الشباب العربي للظفر بلقب النجم الخارق فى مجال الغناء والطرب .. يحدث ذلك والدماء العربية تتدفق فى ليبيا وسوريا والعراق واليمن .. فيما يتأكد بالبراهين والشواهد أكذوبة الوعود الاسرائيلية بشأن الفلسطينيين المحاصرين فى جزر ما تبقى من الضفة والقطاع , وخلخلة أمنية تعصف بالسعودية والجزائر وتونس والأمارات والبحرين والمغرب , يحدث ذلك وأرقام العاطلين عن العمل تتصاعد بوتيرة لم يعرفها العرب من قبل , متنافسة فى ذلك مع أرقام المهاجرين طوعا وقسرا ,وهدر لا مثيل له للثروات مع هيمنة شبه مطلقة لألة التبعية والأرتهان ..

المراقب وهو يقف مترنحا .. متلعثما .. مرتبكا .. قبالة الضؤ الساطع يغمر مدخل الكهف تحوطه أصوات صادحة بالغناء ووقع اقدام الراقصين والراقصات لن يملك للخروج من مآزقه سوى بأطلاق أسم الحقبة الطربية .. الغنائية .. الموسيقية .. الهز وسطية .. البهلوانية .. ويتخلص من الحرج في مواجة أمة .. ضحكت من جهلها الأمم .

 

 

Mahmoud Albosifi
[email protected]