لا شكّ أن المتتبّع للحركات الإسلاموية في الجزائر سيلاحظ بوضوح أن هذه الأخيرة قد تجلّت ضمن ثلاثة أجيال متباينة كليّا. الجيل الأول وهو الأكثر بروزا والأقوى كان صداميا، جذريّ الطرح ومتطرّفا في كل شيء وهو جيل الثمانينيّات الذي انتهى في مصبّ "الجبهة الاسلامية للإنقاذ" بكل صعودها المفزع، المرعب، والصادم وسقوطها المدوّي والأكثر رعبا، والذي لم يستلم التاريخ كل أرشيفه بعد، وهو جيل ينحدر في عمومه من مدرسة  "الأفغان العرب" بكل هالتها الملغّزة. ثمّ برز جيل ثانِ ينحدر من مدرسة الإسلام الإخواني، طبعة منقّحة ومخففة من سابقتها، وقد وجدت تمثيلها السياسي في "حركة مجتمع السّلم" وشيخها الرّاحل محفوظ نحناح الذي دخل في اللعبة السياسية مع النظام، وقاد حوارا سياسيا عريضا ومشاركة في السلطة دامت أكثر من عشر سنوات، ويتميّز هذا الجيل بالنهج السلمي الإصلاحي والانخراط في كل مساعي السلطة لإيجاد توازنا سياسيا داخل نفس النظام. هذا النّهج الذي حقق الكثير للسلطة ولأصحابه لكنه اصطدم بحدوده التاريخية بمجرد بروز الحراك العربي، فما إن غيّر موقعه حتى تفرّق شيّعا ومذاهب.

  مؤخّرا ظهر الجيل الثالث، وهو الجيل الوحيد الذي يملأ الساحة والشّارع هذه الأيام، فالطبيعة الإيديولوجية لا تحتمل الفراغ. أنه جيل هجين بين الأول والثاني، ايديولوجيّا يتبنّى النهج الأصولي لحزب "الفيس" المُحلّ، لكنها تتبع أساليب النضال السياسي للجيل الثاني (مظاهرات، تجمّعات...الخ). حركيّا يمثّل هذا الاتجاه حركة هلامية تطلق على نفسها "حركة أبناء مساجد العاصمة" ثمّ طلبت الاعتماد الحزبي باسم "حزب الصحوة"، ويتزعّمه الشيخ عبد الفتّاح حمداش. لا شيء جديد في النواة الإديولوجية للوهّابية عامة، رؤيتها الرجعية للعالم والسياسة والمرأة هي نفسها عند كل الأصوليات الدينية. إن ما يلفت الانتباه في هذه الحركة هي طريقتها في الدفاع عن إيديولوجيتها، وبالضبط فما يثير أكثر هو تركيزها إنقاذ المظاهر الحياتية والاجتماعية للتصوّر السلفي للحياة، ومناهضة الحريات الشخصية بشكل سافر وسطحي.

يقوم النهج السياسي للنضال لدى هذا الجيل على المتابعة الإعلامية الدقيقة للمستجدّات السياسية والاجتماعية في السّاحة الجزائرية، وإصدار الفتاوى في تخريجها الفقهي البحت للمسألة سرعان ما يتبعها تحرّك على الأرض. سواء تعلّق الأمر بسلوك النظام المستفرد بتشريعه لكل شيء، أو بسلوك المعارضة فإن هذه الحركة لا تفوتها الشّاردة والواردة في تسجيل موقفها المناهض أو المؤيّد، سرعان ما يرافقه تحرّك مثير لأتباعها، بحيث تكون الإثارة الإعلامية هدفا في حد ذاته.

في شهر رمضان الماضي، قام مجموعة من النشطاء العلمانيين والحقوقيين بتنظيم احتجاج على قانون معاقبة المفطرين في منطقة القبائل، بتنظيم غداء جماعي في ساحة عامّة، سرعان ما تبعته تظاهرة للجيل الثالث من الأسلامويين بتنظيم صلاة جماعية في نفس المكان. وقبل أشهر كانت حركة نسوية قد ابتدعت موضة أقفال العشّاق على جسرٍ بالعاصمة، ليواجهها هؤلاء بحركة مضادة لفكفكة الأقفال. وقبل أسبوع خرجوا في مظاهرة عقب صلاة الجمعة لمعارضة سياسة الحكومة في منح التراخيص لفتح الحانات ومحلاّت بيع الخمور، وبمناسبة موسم الاصطياف يعتزم هؤلاء على تنظيم "حملة الحشمة" لتحرير الشواطئ البحرية من مظاهر العري. أكثر من ذلك حين لا تجد هذه الحركة مناسبة إعلامية لتسجيل حضورها وإثارتها لا تتوانى في اختراعها. 

هناك من يقلل من تأثير هذا الجيل السلفي، ويرى فيهم مجرّد فقاعة إعلامية ينفخ فيها النظام السياسي للأغراض فزّاعية قصد تعطيل التغيير، وأن لا مشروع لهم غير الإثارة، وهناك من يرى فيهم خطرا داهما ينمّ عن فشل سياسة المصالحة الوطنية وفشل المدرسة في بتر المدّ الأصولي المتشدّد، أما هم فيرون أنفسهم ورثة الحزب المحلّ وخلفه السياسي، مع تغيير في النهج الدّعوي. وبين هؤلاء وأولئك تصرّ وزارة الداخلية على الإبقاء على كل الخيوط بيدها وعلى مرأى من عين السلطة.

لا شكّ أن التاريخ المثير للإسلاميين في الجزائر يشهد على خطّ مريع من السقوط المتتالي، فمن الهزيمة العسكرية للجيل الأول ضد قوات الجيش، إلى الفشل السياسي الفادح إثر مشاركة الجيل الثاني السلطة مع النظام، ثم ادبارهم عنه وهزائمهم الانتخابية المتتالية ضدّه، إلى الهزيمة الأخلاقية التي يسقط فيها الجيل الثالث من خلال اصطفافه العدمي في خطّ رجعي مناهض لكل قيم الحداثة والتقدّم، والدفاع عن فهم سطحي وبدائي للدين، يحصر الإسلام في مظاهر اللباس والأكل والسلوك في المجال العام، والتدخّل في الحريات الشخصية للأفراد بشكل صِلف وسافر.

في عصر التهويل الإعلامي المصاحب للانتشار الطفيلي للجرائد والفضائيات، وجد الجيل الثالث من إسلاميي الجزائر بيئة مناسبة من الرداءة الإعلامية والتلاعب السياسي بالعقول البسيطة. في جزائر الاستثناء العربي من التغيير، يكفي أن لأي طيف سياسي مهما قلّ شأنه أن يلعب على وتر من أوتار الهوية الدينية أو الإثنية أو اللغوية حتى يتصدّر واجهات الجرائد الصفراء والبيضاء، وفي نفس هذه الجزائر حوّل النظام بكل آليّته مجرد هذا التصدّر الاعلامي إلى الهدف المنشود لكل القوى التي تريد تحريك المياه الراكدة. بقدر ما يتمدد قوس الحساسيات السياسية والهويّاتية وتتابعد طرفيه، تظهر سهام السلطة في منتصف الوتر بوصفها المسدد الأكثر حكمة والأوفر حظّا. وإذا كان الصّخب مزعجا في السياسة فإن فائض الصّمت أكثر إثارة للذعر في واقعِ يشذّ عن كل توقعّ. ولهذا لا عجب أن يسعى المعنيون إلى كسر الصّمت كل مرّة يرخي بسدوله.        

 

أستاذ الفلسفة الغربيّة المعاصرة في جامعة قسنطينة (شرق الجزائر)، باحث ومفكّر