نستهل مقالنا هذا بما ذكره هنري كيسنجر –وزير الخارجية الأمريكي الأسبق وصانع السياسة الخارجية الأمريكية - بقوله "من يسيطر علي الغذاء يسيطر علي الشعوب، ومن يسيطر علي الطاقة يسيطر علي القارات، ومن يسيطر علي المال يسيطر علي العالم بأسره" فهو يجسد القيم الغربية بوضوح وصراحة، ويجسد القيم الدولية وصراع الأجيال بشكل مباشر وواقعي، وبالإمكان القول أننا نمر بعاصفة تغيير قادمة علي غرار ما حدث في أربعينيات القرن الماضي، تأسيساً علي إتفاقية ويستفاليا وتواصلاً لها، حيث تم إرساء أسسها بشكل ثابت بعد الحرب النابوليونية وتعززت في مؤتمر فينا وذلك وفق أنماط متنوعة وبأشكال وتوجهات مستحدثة. 

ما نحاول طرحه من خلال هذا المقال والقادم، هو البحث في أغوار وبواطن الأمور من خلال معرفة الصلة بين دعم بعض الدول الكبرى بشكل ممنهج أو بشكل توافقي مصلحي لجماعات مسلحة خارج شرعية الدول وجيوشها التقليدية، وماهي العلاقة الفعلية بين تلك الجماعات ومخططات دولية كبري لإعادة الخارطة الجيوسياسية وأهمها الشرق الأوسط الكبير، خلافاً لمفهوم سايس بيكو، وما تعارف عليه المجتمع الدولي خلال المئة عام المنصرمة، وقبل أن نصل الي الروابط والصلات إن وجدت، فإنه يتوجب تأصيلاً التعريف بشكل مختصر عن ملامح المشروع ودوافعه وواقعه.

مشروع الشرق الأوسط الكبير وتحوله تدريجياً لمشروع السلام وصفقة القرن

ان ما يطلق عليه «الشرق الأوسط الكبير» يشمل في حقيقة الأمر العالم العربي والاسلامي (الآسيوي بوجه أخص)، الأمر الذي يشير بوضوح الى ان هذه المنطقة هي المستهدفة في مخططات القادم، والتوجهات الدولية لإحداث التغييرات الداخلية في مجالات السياسة والاعلام والتعليم والمرأة والأقليات.

أجد من الضروري وضع بعض التساؤلات التي تحف مسارات المشروع والمخططات التي بدأت ملامحها تغطي أجزاءً كبيرة في عالمنا اليوم، ومن بينها:-

ماهي الحدود الشرق أوسطية، أين البداية، والي أين تتجه النهاية؟ ولماذا هذا الدفع الغربي غير المسبوق لنشر مبادئ مختلفة بكافة الجوانب وأهمها المسار الديمقراطي والحكم الصالح، وحقوق الإنسان وتمكين المرأة، ونشر الحرية؟ وهل ما يَعِد به هذا المشروع من قيم نبيلة لعالمنا (نحن) وداً ودون مقابل؟

مفهوم مصطلح الشرق الأوسط

انتشر المصطلح الجغرافي والسياسي في أقطار العالم، ويقصد به المنطقة الواقعة في وسط العالم، وليس لتحديد البعد والقرب عن القارة الأوربية. إن مصطلح الشرق الأوسط يصعب تحديده، ونجد له مصطلحاً آخر "الشرق الأدني" دلالة للمسافة وقربه للقارة الاوربية وتمييزاً له عن الشرق الأقصى البعيد، وفقاً لتسميته من قبل الإنجليز، وهي تلك المنطقة التي تشمل مصر والسودان وشبه الجزيرة العربية وليبيا وسوريا وفلسطين والعراق وإيران ولبنان وتركيا وأفغانستان وباكستان وجنوبي اليونان وقبرص. والمتعارف عليه عالمياً الآن، بالإضافة للدول المشار اليها، فهو يضم أريتريا والصومال. 

التوجهات الأمريكية تجاه الشرق الأوسط

اننا لا نستطيع أن نلوم الولايات المتحدة الأمريكية في إعادة صياغة وصناعة العالم الاسلامي بأسره، وليس العالم العربي وحده، ولذا، فإن الولايات المتحدة تحديدا اصبحت تتعامل مع العالم العربي الاوسطي باعتباره منطقة رخوة ومنزوعة العافية، ومعملاً لتنفيذ بحوثها وتجاربها وتطلعاتها المختلفة مهما اشتد الرفض او التشدد، معتبرة إياها مجرد كيان جغرافي واسع، ومصدراً من مصادر الطاقة. 

ينسجم مشروع الشرق الاوسط الكبير مع هدفين رئيسيين (استراتيجياً) للولايات المتحدة الأمريكية في المرحلة الراهنة، أولهما تحديد طرائق الحرب الاميركية ضد الإرهاب، وثانيهما التقدم لتثبيت التربع الأمريكي المطلق او ما بات يعرف بالقطبية المنفردة، وفي أحيان كثيرة قد تكون النشأة (دينية) حيث يذهب الأصوليون الانجيليون الي وجوب دعم اسرائيل وبناء الهيكل (في مكان المسجد الأقصى بالقدس) قبل وقوع معركة «هرمجيدون» الفاصلة بين الخير والشر، وهي التي تسبق بالضرورة العودة الثانية للسيد المسيح عليه السلام، والتي سيعقبها دخول جميع اليهود في المسيحية، الأمر الذي قد يمهد الطريق لتحقيق الهدف النهائي المتمثل في تمسيح العالم بأسره. 

وفي سياق الحديث عن مشروع الشرق الأوسط الكبير محط الجدل السياسي المعاصر، فقد ذكر الدكتور الخوري، بأنه "لم يسبق لورقة سياسية ان حظيت بهذا الحجم من الاهتمام والنقاش"، وقد أطلق عليه الكاتب فهمي هويدي "الوجبة الأولي" وفق ما نشرته صحيفة الشرق الأوسط،  كما ذهبت الصحيفة الأمريكية (نيويورك تايمز) في نشرها علي موقعها الاليكتروني بتاريخ 24/5/2017، تبين من خلاله الخارطة الجديدة للعالم والشرق الأوسط تحديدا، والتي لا تختلف كثيراً عن دراسة بعنوان: «استراتيجية لإسرائيل في الثمانينيات» أعدها «عوديد بينون» الموظف الأسبق فى وزارة الخارجية الإسرائيلية. 

لقد أظهرت الخريطة المشار اليها عدد 14 دويلة، فما هي المحاور الأساسية للمشروع وكيف تعتزم الولايات المتحدة الأمريكية وشركائها تقسيم تلك الدول؟ وبأي الطرق الأنسب لمصالحها تتوجه السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية في دعم هذا المشروع؟ وهل أصبح الدور الأوربي مٌعوقاً؟ وما هي القوي المحلية والإقليمية والدولية الداعمة بشكل مباشر أو غير مباشر لتنفيذ تلك السياسات؟  

ولهذا توجب علينا القراءة المستفيضة والمتابعة الدقيقة لما يجري علي أرض الواقع وتتبع  هذه الدراسة  وغيرها من الدراسات والأبحاث في ذات الشأن، فعلي سبيل المثال، لكي نرى ما تحقق منها حتى الآن علي سبيل المثال لا الحصر، فالسودان تم تقسيمه لجنوب وشمال، ويمر اليوم بصراعات داخلية بعد إزاحة حكم "البشير"، الأمر الذي قد يدفع مسار التغيير به الي منزلقات تؤيد ذهابه الي تقسيمات أخري كما أوردته الخارطة ووضعته في اربع دويلات ليصبح السودان غربي وشرقي بالإضافة لحاله اليوم شمالي وجنوبي، كما أن حال العراق أصبح واقعياً أقرب إلى دويلات سنية وشيعية وكردية، وها هي سوريا تدور الحرب فيها من أجل تقسيمها بشكل إثني وديني، كما أننا نرتقب الموقف في ليبيا التي تعاني التشظي وتراوح في مرحلة الانتقال سياسياً وعسكرياً بعد مرور ثماني أعوام لثورتها، وبهذا، حين ننظر إلى الخريطة التى نشرتها «نيويورك تايمز» سنجدها موصولة بهذه الدراسة وتتطابق جوهرياً مع الواقع الذي تشهده المناطق العربية والافريقية اليوم. 

وحيال الأرشيف الضخم الذي أورثه هذا المشروع الحافل بالمواقف وردود الفعل المتباينة، فإن إنعكاساته التي يمكن ذكرها هو نجاح هذه الورقة الي حد - كبير وسريع ونشط – وذلك من خلال تحريك مجمل الملفات والروابط - في العالم سواء أكان من الناحية الاستراتيجية الدولية وإعادة رسم الخرائط للأوطان والشعوب والأقليات والإثنيات والطوائف، كما غيّر النظرة في مجمل النواحي الاخرى بالتبعية (اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وتنموياً)، والأهم من ذلك كله، هو تغيير الثقافات القومية المتأصلة والمتجذرة وفقاً لمبادئ وميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي العام، والتي عززت رسم الحدود الجغرافية للدول المستقلة وعمقت ظاهرياً مبادئ السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وإرساء قواعد الجيوش التقليدية لأجل حقوق الدفاع بشكل شرعي، الأمر الذي بدأ ينحرف تدريجياً...كما حدث في العراق في وقت سابق قريب بحرب الخليج الثانية ويحدث الآن في كل من سوريا وليبيا واليمن والسودان والجزائر وبارتقاب القادم في دول جنوب المتوسط ودول أفريقية أخري. 

وعلى الرغم من الإلحاح في تكرار وصفات علاجية تحت مسميات الحرية والديمقراطية وسلسلة المبادرات المتوالية لتحقيق التحولات في المنطقة العربية، فإن غالبية العرب والمسلمين ينظرون اليها بنظرة الشبهة والريبة، فقد كان ولا يزال الهّم الأميركي منشغلاً بتحصين المباردة بمشروعية أوروبية (صعبة المنال) وبمقاولات إسلامية (صعبة القبول والتصديق)، كما تحاول الولايات المتحدة الأمريكية تكرار تجربة أوربا الشرقية (رغم عدم تطابقها)، ومحاولة تعميمها في العالم وتحديداً عالمنا العربي والأفريقي والإسلامي.

المحاور التأسيسية الظاهرة...والأهداف العميقة المبطنة

يجبرنا الحديث العودة الي مرحلة التخطيط التي تلت الحربين (العربية-الإسرائيلية) عام 1967 و1973، حيث اقتنع الإسرائيليون بضرورة وضع حدود حديدية للخطر العربي وبشكل كامل ودائم، تزامناً مع نجاح الثورة الفلسطينية وقدرتها في تشكيك البقاء الإسرائيلي، في الوقت الذي أثبتت فيه مصر حراك العبور الذكي والنشط للضفة الشرقية لقناة السويس. ومن هذا المنطلق بدأ التفكير يذهب جدياً لتذرية المساحات العربية وتفتيتها، فهو يوفر بيئة ملائمة ومناسبة لإمكانية البقاء الدائم لإسرائيل وسهولة التفاوض والتفاهم الثنائي بدلاً من التفاهمات الجماعية وذلك لبسط نفوذ علي المنطقة يمتد بين النيل والفرات وصولاً الي ليبيا ويستمر. وبهذا تقدمت إسرائيل بمسار التعاون مع أمريكا بمشاركة أوربية (مؤقتة وهشة)، والهدف هو إعادة رسم الخريطة الشرق أوسطية تحت رعاية المحافظين الجدد وبدعم مراكز البحوث الدولية والأمريكية المنحازة، برغم من صعوبة ما أنشأه الإستعمار الغربي منذ الحرب العالمية الأولي واستحداث دول علي أنقاض الإمبراطورية العثمانية وتشابك علاقاتها ومصالحها، فإذا كان القصد هو إعادة رسم الخارطة فإنه يتوجب كما يصفها بعض الباحثين "عملية شديدة العمق زلزالية التأثير مفصلية النتائج". 

الإنهيار السوفيتي وإنطلاق المبادرة

لقد دعم انهيار الاتحاد السوفيتي الفكرة والمشروع من خلال الإنفراد الغربي (الأمريكي) بالقوة وتخلف الكتلة الشرقية عن المشهد، حيث انفتحت الشهية للإنفراد وبسط الهيمنة على العالم، ومنع ظهور أية قوة يمكن أن تنافسها أو تتحدى ارادتها في الحاضر و المستقبل، وبعد وصول الرئيس الأمريكي الأسبق بوش الابن الى صدارة البيت الأبيض انتعشت آمال القوى اليمينية الأصولية (المحافظون الجدد) المتحالفة مع إسرائيل في التمدد خارج الحدود، وتحقيق الهيمنة المنشودة و الراغبة في اقامة الامبراطورية الاميركية وتحقيق إستقرار إسرائيل وتوسعها وضمان مكانها وتثبيت شرعيتها. 

مهد مشروع الشراكة الأمريكية بالشرق الأوسط  الطريق برعاية   سكرتير الدولة حينها (أرميتاج) و(اليزبيت تشيني) لمشروع الشرق الأوسط الكبير أو الجديد كما سمته "رايس"، وبحجة الإصلاح والتطوير والتنمية، أخذت الولايات المتحدة الأمريكية تدعو الي ولادة مشروعها وصناعة أحداثه، وتهيئة المناخ العام لإستقبال الحدث وتحشيد تأييده، حيث قد نشرت " رايس" وزيرة الخارجية الأمريكية الأسبق مقالا في 7 آب أغسطس عام 2003 وكانت حينها مستشارة الأمن القومي تقول فيه" أن منطقة الأوسط يؤخرها العجز عن الحصول علي الحرية، والشعور باليأس بسبب عقائد الكراهية التي تقنع الناس بالتخلي عن تعلمهم الجامعي والطموح الي تفجير أنفسهم"، وقد أطلق الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش أمام صندوق «الوقف القومي للديمقراطية» في الولايات المتحدة الأميركية في السادس من شباط 2004 مبادرته تلك، ومنذ ذلك الحين أصبح العرب والعالم مشغولان بها. فقد بدت محط الجدل السياسي المعاصر ومثار التداول في داخل دول العالم العربي،

فما هي حقيقة الخارطة الجديدة للعالم والشرق الأوسط، وهل ستصمد أمام التحديات العربية والإسلامية والرفض الشعوبي؟ وما هي طرائق تنفيذها، وهل تم الإستعانة بطرق مباشرة أو غير مباشرة بجماعات مسلحة إسلامية وغيرها لتنفيذ تلك المخططات حيث تتلاقي الأهداف وتتكامل؟ وهل أوجد الربيع العربي فرصة ناعمة لتنفيذ المشروع تحت مسميات إنسانية، ظاهرها الرحمة وباطنها تجزئة المجزأ وتفتيت الأمم؟ كل هذه التساؤلات سنحاول البحث فيها من خلال حديث قادم.

كاتب و محلل سياسي ليبي