سنة كبيسة أخرى تنقضي من زمن المحنة التي يعيشها الليبيون منذ قرر قطيع الذئاب الدولي غزو بلادهم على ظهور الحمير والبغال المحلية .. ولاشيء يتبدى في أفق الإنفراج غير مواعيد غامضة هي أقرب للأمنيات منها إلى الاستحقاقات في ظل واقع جيوسياسي ينذر بالمزيد من التأزم .. 
أبرز ماسجلته روزنامة الأحداث في السنة المنصرمة ، إستمرار الأزمة المعيشية التي تتصاعد قسوتها مع شح السيولة وإرتفاع الأسعار وتكدس النازحين في مدن بعينها بسبب الحروب والإنفلات الأمني، وإنتشار الفقر والجريمة بمعدلات غير مسبوقة خلال العقود الماضية مع ملاحظة إنخفاض نسبي في أسعار العملات الأجنبية نتيجة ما أسمته حكومة الوفاق بحزمة الاصلاحات الاقتصادية المطبقة في الربع الأخير من سنة 2018 م المغادرة ..أما الفشل السياسي والمؤسساتي والأمني والاجتماعات الاستعراضية التي إستضافتها الدول المتكالبة على الثروات الليبية، في باريس وباليرمو، ومفاوضات المسؤول الأممي غسان سلامة وزياراته المكوكية بين الرجمة وأبي ستة مرورا ببعض المدن المنتصرة والمهزومة، وما تمخضت عنه من تفاهمات كلامية قابلة للنكوص والتجاهل بما في ذلك إجراء الانتخابات وقبلها المؤتمر الوطني الجامع ..فكل هذا لايتنزل إلا في سياق تأبيد عصر التيه الليبي في صحراء مشرعة الإتجاهات نحو عدد لامتناه من الإحتمالات والممكنات.. 
هشاشة البنية الليبية الداخلية في الواقع أسست لأولوية العامل الخارجي في ترسيم وتوزيع خارطة القوى والصراع - ولانستطيع إذا كنا نتوخى الموضوعية - تحميل الأجنبي المسؤولية الكاملة عن هذا التداخل العبثي بين السياسي والاجتماعي في مغالبة غير منضبطة ولا محكومة بأية معايير، حول ومن أجل السلطة والثروة ..في الوقت الذي ينعدم فيه الوعي - بل وحتى الإدراك - لدى الليبيين أنفسهم بمدى خطورة اللحظة التاريخية الفارقة التي تعيشها بلادهم وهي تتداعى على شفا جرف هار..فأوروبا والمجتمع الدولي - بإستثناء دول الجوار التي يرتبط مصيرها الجيوستراتيجي بمصير ليبيا - تتعامل مع الأوضاع من منظور الغنيمة ووفق حسابات الأرقام في الربح وفي الخسارة ولايعنيها من الجغرافية "القبلية / العاطفية" الليبية ، إلا بمقدار ماينعكس على أمن شواطئها من مخاطر الهجرة وتسلل العناصر الإرهابية، وفي هذه الحالة فإن تفتيت الإقليم الليبي - الذي تصر نخبة الردة على القول أنه صنيعة الأمم المتحدة - يبدو أكثر فائدة ومنفعة على صعيد عملي أمني وإقتصادي وسياسي .. 
ولذلك - من هذه الزاوية تحديدا - تبدو القضية الليبية للوهلة الأولى، شأنا أوروبيا مستقلا بإمتياز ..لكن اللاعب الأكثر تأثيرا وأثرا حتى وإن كان لايظهر بشكل يعكس حجم حضوره الفعلي في الصورة التذكارية للمشهد، هو اللاعب الامريكي الذي يشرف على تفاصيل التحولات البنيوية التي تعيشها المنطقة عموما من أقصى نقطة في الخليج إلى أقصى نقطة في المغرب الكبير .. 
وبالنسبة لباقة الأولويات في العقل السياسي المؤسساتي الذي يحكم واشنطن - ودعك من فجاجة شخصية التاجر التي يتقمصها ترامب - لاتقع ليبيا على رأس القائمة، ليس لأنها غير ذات أهمية ولكن لأنها عمل منجز وحقل عامر بالمحاصيل لا ينقصه سوى الحصاد والدرس، بعكس بقية المشاريع الأخرى في سوريا واليمن وفلسطين والعراق ووو ..وهي لاتزال تحتاج إلى جهد وتركيز ومساومات وتبادل للمواقع والمصالح مع الحلفاء كما مع الاعداء ..ولكل هذه الأسباب يظل الحل الليبي - الليبي وكذلك التفاهم الأوروبي - الأوروبي في الشأن الليبي ، مرتبط بالرؤية الأمريكية العامة للترتيبات النهائية في مناطق التماس الساخنة التي تتداخل فيها مصالح الكبار عسكريا وإقتصاديا ..ولعله من سوء الطالع أو من حسن الحظ - لا أحد يدري - هذا التشابك الشرطي بين التسوية في الإقليم ككل وبين التسوية في الملف الليبي لأن التوازن النسبي الذي أحدثه التدخل الروسي في سوريا على سبيل المثال أجبر الولايات المتحدة وحلفاءها الإقليميين على إعادة ترتيب الأوراق والتنازل قليلا عن سقف المطالب التي وضعوها في بداية الأزمة .. والجميع يراهن دون أن تكون ثمة مؤشرات مؤكدة أو دلائل قاطعة على تدخل روسي مباشر وواضح في الحالة الليبية يعيد بعض الأمل والمنطق لمسار الصراع وصيرورته المرتهنة بالكامل للإرادة الغربية .. 
لقد فرط الليبيون في سانحة ضعف أوخيانة أو خديعة، بزمام إرادتهم وتقرير مصيرهم، وعليهم اليوم أن يركنوا للكهانة و " التقازة " للتبع هذا المصير في نوايا الغير وإستراتيجياتهم في التعامل مع مصالحهم في المنطقة التي تشكل بلادهم جزءا أساسيا منها.. ولعل الأشهر القليلة القادمة ستجيب على كثير من الأسئلة المحتشدة في أفق القلق والترقب وكل ما نستطيع المساهمة به هو رفع الأكف بالدعاء :- اللهم لا نسألك رد القضاء ولكن نسألك اللطف فيه..


كاتب ليبي 

الاراء المنشورة ملزمة للكاتب و لا تعبر عن سياسة البوابة