وكم في تاريخ ليبيا من المضحكات ،ولكنه ضحك كالبكاء ولنأخذ مثلا رجل دين إسمه ، ابو الاسعاد العالم ،تقول عنه كتب التاريخ أنه أحد علماء طرابلس المدينة ووجهائها، كان فقيهاً دينياً، عينته إيطاليا مفتيا لليبيا، فأفتى بالجهاد لصالحها ، وأفتى بأن في محاربة الإيطاليين  عصيان لله، لأن الإيطاليين (أولو الأمر) !! وأفتى للمتجندين الليبيين في الجيش الإيطالي الغازي بأن يصح لهم الإفطار في رمضان، لأنهم في عداد المجاهدين!!! 

وعندما زار موسوليني ليبيا كان الشيخ أبو الاسعاد أحد أفراد اللجنة الخمسة المكلفين باستقبال موسوليني. بل وصل به الامر الى ان يهديه سيفا سمّاه سيف الاسلام ليسلّطه السفاح  على رقاب الليبيين وأمر أن تفرش الشوارع بالبسط، احتفاء بزيارة الرجل العظيم حامي حمى المسلمين !! وقد فعل مثله الشيخ عبد الحميد الديباني في بنغازي.

مفتي بنغازي في تلك الفترة عبد الحميد الديباني فعل ذات ما فعله أبو الإسعاد في إستقبال الزعيم الفاشي ، وهناك من الأفلام ما يوثّق مشاهد الفرح والرقص والإبتهاج بإستقبال موسوليني ، من يقرأ الترجمة الأصلية لكتاب « الطريق الى فزّان » سيكتشف ما كتبه السفّاح غراتسياني عما قدمه ليبيون الإيطاليين ، وكيف تعاونت قبائل مع الغزاة ، 

تاريخ عمر المختار نفسه يروي قصصا عن حقيقة الخيانات التي تعرض لها شيخ الشهداء ، فقد باعه ليبيون ،وحقّق معه ليبيون ، وشنقه ليبيون ، 

هناك من سيقول : ولكن هذا يحدث في كل الدول والمجتمعات والشعوب ،  فالخيانة قائمة والخونة موجودون ، وما كانت لتتعرض دولة للغزو والإحتلال لولا الخيانات ، 

هذا صحيح ،ولكن الخطير في الموضوع أن الخيانة تورث وتُورّث ، ويبدو أن مخابر الغرب تعمّدت البحث في جين الخيانة الزوجية وتجاهلت جين خيانة الأوطان 

ففي العام 2010 كشفت دراسة حديثة عن وجود عنصر جيني هو المسئول عن الخيانة الزوجية، حيث تبين أن 23% من النساء خائنات لأزواجهن، حيث أرجعت الخيانة الزوجية إلى إحدى الجينات.

وأكدت الدراسة،أن الخيانة لا تكون مقتصرة على الرجل فقط دون الأنثى، وأشارت أيضاً إلى أن من يملك هذه الجينة يكون مهيأً لارتكاب فعل الخيانة.

من ناحية أخرى حلل الخبير البريطاني سبيكتور في مستشفى سانت توماس أن دور العوامل الاجتماعية وتأثيرها على حدوث الخيانة، فالطفلة إذا رأت أمها تخون فقد يسهل عليها عندما تكبر تقليد نفس السلوك، وفي هذه الحالة يصعب جدا تحديد ما إذا كان هذا سلوكا مكتسبا نتيجة رؤية الأم في وضع خيانة أو سلوكا موروثا نتيجة لتوارث الجينات.

وأكدت دراسة كويتية أعدتها الدكتورة منى غريب الأستاذة بمركز اللغات بجامعة الكويت وأخصائية علم ‏الحركة أن لكل فكرة أو فعل طاقة معينة حيث تنتشر عند التعامل مع الآخرين ‏‏فالرجل يترافق مع رجل أخر يخون زوجته ويعلن عن هذه الخيانة بكل رجولة وفخر فتنتقل ‏العدوى بالطاقة إلى الأخر ويقلده من باب ضرورة الانسجام مع المجتمع فيرجع إلى ‏‏المنزل وتنتقل الطاقة إلى زوج آخر.

في  ما يتلق بالوطن هناك خيانات كذلك ،وحسب قراءة متأنية في الوقائع ، نرى ذات الخيانات  تتكرّر بين الأسر والقبائل وحتى المدن ، وكما هناك من يرثون الأمانة والصمود والوفاء والمقاومة هناك من يرثون الخيانة والعمالة والإنتهازية خصوصا في ظل توفّر الظروف الملائمة 

في النصف الأول من القرن العشرين كان هناك إحتلال إيطالي لليبيا ،وقد طوّع أبو الإسعاد العالم الدين الإسلامي لخدمة موسوليني والفاشيستية بعد إحتلال إيطاليا لليبيا في العام 1911 ، ويبدو غريبا أن بعد مرور قرن بالتمام والكمال ، يتكرّر المشهد ، وتأتي هذه المرّة دولة قطر لتضع يدها على ليبيا في أطار مشروع « الربيع العربي » ، وتجلب أتباعها من كل حدث وصوب ، ومن بينهم مفتي الديار الليبية الصادق الغرياني الذي يبدو أنه يعرف جيدا ما له وما عليه ، ويتقن دوره كما أتقنه قبله أبو الإسعاد العالم 

أفتى الغرياني بأن من يقاتل مع الجيش الليبي يعتبر من الفئة الضالة ،ومن يقاتل ضد الجيش الليبي شهيد إذا مات ،قبله أفتى أبو الإسعاد بأن من يحارب الغزاة الإيطاليين ضال ،ومن يحارب في صفوفهم مؤمن ، فإن مات تحت رايات المحتل فهم شهيد 

وأفتى الغرياني   بأن الخروج عن حكم الإخوان ضلالة يقود صاحبه الى جهنم وبئس المصير كونهم أولي أمر ،وقبله أفتى أبو الإسعاد بأن الإيالطي ولي أمر لا يجوز الخروج عليه  

وإعتبر الغرياني أن من لا يعترف بفضل القطريين على ليبيا أقلّ من كلب على حد تعبيره ،وقبله إعتبر أبو الإسعاد أن موسوليبي حامي حمي الوطن والدين 

الغرياني ليس نشازا في جوقة التسبيح بحمد قطر في ليبيا وفي دول عربية أخرى ، وهو نموذج لطبقة سياسية وإعلامية ودينية وإقتصادية وإجتماعية لا ترى مانعا من أن تمارس أحطّ أشكال الخيانة للوطن والعمالة للأجنبي ، وهذه الطبقة لا تختلف عن الشعوبيين في العراق ممن يمارسون التبعية لإيران ،ولا عن الحركيين في الجزائر ممن كانوا يتوارثون العمالة لفرنسا 

ولعل من المصادفات أن أبو الإسعاد عُيّن مفتيا لليبيا بعد خروج الإيطاليين ،والغرياني بات مفتيا لليبيا بعد إنتصار القطريين فيها ونجاحهم في فرض أتباعهم على سدة الحكم 

قبل مائة عام ، تم تهجير الليبيين الى الخارج لأنهم رفضوا فتوى أبي الإسعاد العالم ، واليوم يتم تهجير الليبيين لأنهم يرفضون فتاوى الصادق الغرياني .

الوطنيون في زمن العالم  حوربوا بتهمة التمرّد والتخريب والوطنيون في عهد الغرياني يحاربون بالتهم ذاتها .

هكذا يتم إستعمال الدين لفائدة من يمتلك السلطة والثروة والسلاح حتى ولوكان غازيا أو محتلا أو دخيلا أو خائنا ، وهكذا تتناسل الخيانات من رحم التاريخ لتواصل صراعها الأبدي ضد كل القيم السامية ، سواء في ليبيا أو في غير ليبيا .