برهان هلاك

يطفو على سطح ماء الساحة السياسية التونسية الآسن جدل قديم متجدّد حول ما إذا كان للعسكريين الحق في المشاركة في فعاليات الحياة السياسية و التطلع نحو مناصب يديرون في إطارها الشأن العام في ظل حياد، أو لنقل نزعة لاسياسية تتعدد علّاتها الذاتية و الموضوعية، عادة ما توسم بها المؤسسة العسكرية في تونس. 

و لكن عنصر الإضافة هذه المرة هو بلوغ الاستقطاب مرحلة من التفشي في ساحة الحدث التونسي أدت إلى اصطفافات جديدة في إطار موضوع " عسكرة السياسة "؛ هؤلاء مجموعة من العسكريين المتقاعدين قد أشاروا إلى أحقّيتهم بالمشاركة في الحياة السياسية بينما يحافظون على رتبهم القديمة، و ريح البيان هو من ريح تصريحات حزب سياسي ان تقاسم معهم مشتركا فهو اشتغال ضعيف على مسوّدة الإيمان بمدنية الدولة. و هناك، حيث التلال، يربّي أميرال بحري الأمل في انقاذ تونس بقلب نظامها السياسي الذي هبّ نفس الحزب، المتضامن ضمنيا مع طرح المتقاعدين الأول، للدفاع عنه في إشارة إلى أن الأميرال ليس من المؤلفة قلوبهم.

إنّ البيانات التي أصدرها عسكريون متقاعدون، منخرطون في جمعيات تتحدث باسمهم، لا تعكس إلا توالد مواقف جديدة متضاربة و متباينة من الأزمة السياسية المستمرة، و هو ما أثار توجّسا من تدخّل محتمل للمؤسسة العسكرية في المشهد العام الوطني التونسي؛ تتمثل هذه الجمعيات في جمعية قدماء ضباط الجيش الوطني و الجمعية التونسية للعسكريين المتقاعدين و وداديّة القوات الخاصة، و قد أصدرت مجتمعة في تكتّل ما بعد مهني كبير بيانا مشتركا جاء فيه تثمينها " للمواقف الإيجابية " لأغلب الإعلاميين و وسائل الإعلام السمعي و البصري التي كانت " في مستوى المسؤولية و الإدراك " للموضوع من جانبه القانوني المتعلق بـ " استحقاقات العسكريين المتقاعدين في المواطنة وحرية التعبير "، و في جانبه السياسي من حيث " النّأي بها (المؤسسة العسكرية) عن التجاذبات مهما كانت الادعاءات والحجج". و تنكشف من خلال كل ذلك رغبة مقنّعة في العمل السياسي تحت مسميات عسكرية تكشفها المطالبة بممارسة العمل في الشأن العام بمسميات وظيفية هي الرتب العسكرية السابقة لضباط متقاعدين، إذ دعت الجمعيات التي تمثل العسكريين المتقاعدين إلى تمكينهم من حقّهم في ممارسة العمل السياسي بصفاتهم القديمة و استنكرت ما اعتبرته مواقف داعية لوجوب تخلي العسكريين المتقاعدين عن رتبهم عند ممارسة الشأن العام.

 و لا يسع العين المراقبة إلا تقصي اصطفاف وراء حزب سياسي معيّن، و هو حركة النهضة الإسلامية، من خلال ما ورد في البيان المعنون بـ " الأمل الأخير لإنقاذ البلاد " و الذي حمل توقيع وجوه بارزة يستشف المراقب من رمزيتها بصمة لحركة النهضة باعتبار الاتهامات التي وجهها للرئيس قيس سعيد، و اعتبارات تاريخية منها ثبوت حقيقة اختراق الإسلاميين للمؤسسة العسكرية؛ انّ الاتهامات الموجهة لرئيس الدولة بشكل ضمني و التي تحمله مسؤولية القطيعة بين رأسي السلطة التنفيذية، أي بينه و بين رئيس الحكومة المدعوم من قبل حزام سياسي تبرز حركة النهضة كأهم مكوناته، كما تدعوه إلى " التوافق " و التحاور لتجنيب الدولة التونسية الانهيار، و المسكوت عنه في كل ذلك اعتبار أن لا مناص من التوافق و التحاور، بل و حتى الاذعان غير المعلن، لرغبات حركة النهضة، و أن ذلك هو سبيل الخلاص. كما أن لغة البيان لغة تورية سياسية و مناورة تهدف إلى استثمار ضرب من الصورة المفترضة للمؤسسة العسكرية، و هو استثمار سياسي خاص و في اتجاه محدّد حسب ما يشير إليه الدكتور منير السعيداني، أستاذ علم الاجتماع، في معرض تصريحة لسكاي نيوز عربية، عندما اعتبر لغة الرسالة سياسية واضحة الاتجاه في التأكيد على معجم محدّد (مرحلة انتقالية، تعديلات، الإصلاح التدريجي، مبدأ التحاور، رأي الأغلبية، التداول على السلطة، صندوق الانتخابات، النظام الديمقراطي...إلخ) وهو ما يشير إلى دور سياسي يرشح هؤلاء المتقاعدون العسكريون أنفسهم للاضطلاع به، و هو ما قد يكون نتيجة بعدية في التاريخ لحوادث الاختراق لهذه المؤسسة العسكرية خلال آخر الثمانينات و أول التسعينات من قبل الجناح العسكري للجهاز السري لحركة الاتجاه الإسلامي آنذاك ( حزب حركة النهضة حاليا)، و لتكون النهضة بذلك من أبرز المستفيدين من هذا السخط العسكري في مواجهة " تعنت " رئيس الجمهورية في وعي تام بالكاريزما التي تتمتع بها المؤسسة العسكرية و مدى التمثل الشعبي لها باعتبارها ذات حياد و وطنية لا ترقى لها الشكوك. و تزداد معقولية هذا الطرح بالتمعن في المخاوف الجدية التي تضمرها، و لا تبديها، حركة النهضة من الإقصاء من جانب الرئاسة باستخدام الفصل رقم 80 من الدستور التونسي، والذي يمنح رئيس الجمهورية الحق باتخاذ التدابير اللازمة لحماية البلاد في الحالات الاستثنائية مع موافقة رئيسي الحكومة ومجلس النواب على تلك القرارات، و ان كانت المقتضيات الدستورية لتطبيق بنود هذا الفصل غير متوفرة لدى رئيس الجمهورية في ظل هيمنة حركة النهضة على برلمان مجزأ و مفتت و في ظل الإسناد السياسي لرئيس حكومة لن يجازف بالموافقة على تفعيل هذا الفصل الدستوري، وهو ما يجعل فزع النهضة خشية من الإطاحة بها أمرا غير مبرر.

و يلوح الاصطفاف كمعطى لم يعد حكرا على السياسيين بل انتقل منهم إلى الضباط المتقاعدين الراغبين في مباشرة العمل السياسي، و في نفس هذا الإطار يتنزل بيان الأميرال المتقاعد كمال العكروت الذي طالب فيه بإنقاذ البلاد من خطر ما اعتبره تفككا لمؤسسات الدولة  و من ديمقراطية وسمها بالشكلية و طبقة سياسية حدّد لها همّا أوحد و هو الاِستحواذ على السلطة بلا إنجاز و لا فعالية تذكر حسب تقييمه.

و يبدو أن ارتباطاته لا تزال ملتفة ببعض الغموض الذي بدأ بعدُ في الانقشاع على إثر مناوشاته مع رئيسة الحزب الدستوري الحر، عبير موسي، و اتهامات هذه الأخيرة للأميرال بمحاولة اختراق صفوف أنصارها المتراصة في مقاومة " نموذج الحكم الإخواني " و جرّ ذلك على ما اعتبره سفير ألمانيا السابق بألمانيا، إلياس القصري، سعيا من قبل الأميرال العكروت لتشتيت " القوى الوسطية التقدمية "؛  إن إرهاصات توضح اصطفافاته هذه لا تبيّن بشكل واضح الجهات الداعمة له و إن كانت تكشف على الأقل أوّل أعدائه في مشهد سياسي لا يزال يتلمّس ملامح الدور المفترض لعسكري سامٍ متقاعد و شبكة ردّات فعل لا تزال انطباعية و غير معقلنة خاصة فيما يتعلق باستدعاء ذكريات أليمة في التاريخ عندما أبدى جنرال الرغبة، بل الرغبة الشديدة، في الحكم. و على كل حال، ستكشف اتجاهات مفاوضاته و مناقشاته في قادم الأيام حقيقة ارتباطاته من خلال الأطراف التي سيجد معها روابط تحالف منطقية و براغماتية تشي بـ " توافق " على مستوى الاستعداد لوضع النفس في خدمة " أحدهم "، على الرغم من أنّه يمكن تعريفه منذ الآن باعتبار دائرة فعله السياسي التي يبدو أنها ستناقض توجهات الحزب الدستوري الحر على الأقلّ، حيث تناصب رئيسة هذا الحزب عداء تأسيسيا للأميرال رغم أنه يؤكد على أنّ ما يجمعه بعبير موسي أكثر مما يفرّقه.

و بناء على ما سبق، يتضح أن الإصطفاف و التخندق )الذي تعرفه الساحة التونسية منذ سنوات، و بالأخص منذ أن انقسم العالم العربي إلى معسكرين على إثر الصراع بين دول الخليج الرئيسية في إطار الأزمة بين قطر و السعودية متبوعة بالإمارات(يشهد تمددا بلغ مظاهر " عسكرة إدارة الشأن العام " حيث يحسب هذا اللفيف من العسكريين المتقاعدين على طرف سياسي، فيما يهادن، وبلا و يتبنى، لفيف آخر أجندات طرف آخر بما فيه الانصياع و خدمة أجندات " مشغّلي " ذاك الطرف.