~~

في مدن الهامش، كمدينة بني ملال يصعب على  الأقدام الصغيرة أن تجد موطئا لها وسط أقدام كبيرة ترفس كل الأحجام الجميلة والوديعة، كأقدام الفنانين والمبدعين خاصة موجة الشباب الصاعدة، الذين اختاروا درب الموسيقى والمسرح والكتابة والإبداع بكل أشكاله؛ زاويتهم للتعبير عن كل أحلامهم وما يخالج صدورهم من أمنيات وقلق وهمّ.
لم يكُن شكسبير في نصف إدراكه ولا ربع وعيه حين قال قولته الشّهيرة "اعطيني مسرحا اعطيك شعباً عظيما"، فقد أدرك بحسه الفني العميق، وانطلاقا من موقعه كمثقف عضوي، أنّ الفن عموما، والمسرح بشكل أدقّ يجعل من الإنسان كائنا ساميا سويا، يترفع عن كلّ الشوائب التي من شأنها أن تسقطه مطرح الحيوان، وتربك عجلة تقدم البلدان.
إنّ الشعوب المتحضرة اليوم، تقاس بمدى اهتمامها بالفنون، خاصة الفنون الحية، ينال فيها المسرح حصة الأسد، في عِقدٍ متوازن ومتكافئ تتداخل فيه الموسيقى والفنون التشكيلية والغناء والرقص والكتابة والكاريكاتور والسينما. وبتدخل تنظيمي وتسويقي من طرف الدولة، حيث تضمن في المقام الأول حرية التعبير للفنان والمبدع، وتخلق له فضاءات الاشتغال من خلال تشييد مؤسسات علمية خاصة، تضمن الممارسة النظرية والتطبيقية الصحيحة والسليمة لكل أنواع الإبداع والفنون، وتسهر فوق كل هذا على المتابعة والدعم. يحدث هذا في دول تعتمد في تحديد مقياس تنميتها البشرية على الفن والابتكار وتشجيع البحث العلمي.
لم يكن من الضرورة - ونحن في معرض حديثنا نتناول على وجه التحديد فرقة الأوركيد للمسرح بمدينة بني ملال- أن نأتي على سرد كل هذه المعطيات التي باتت شبكة التواصل والانترنت تجود بها لكل من يبحث عن المعلومة. ولكن أحيانا نجد أنفسنا أمام مقارنات تفرضُ علينا، وإن تكون في أغلب أحايينها مجحفة، لوجود فارق كبير وشاسع، يهم كل المستويات ليس الفن وحده.
لن يجادلنا أحد أنّ مدينة بني ملال، أجهز مسيرو مؤسساتها على تاريخ كبير من فنها وآثارها، كما أجهزوا على مهرجانات كان فضاء عين اسردون مرتعا لها، كان دهاءً ومكراً أن أسندت الأمور لغير أهلها لتسيير الشأن المحلي بالمدينة، كيْ يتم امتصاص واسكات أصوات كثيرة كانت بطريقتها تحارب الفساد والمفسدين بالمنطقة. من رماد كل هؤلاء المحروقين، بعث طائر الفنيق "فرقة الأوركيد" التي حاولت أن تعيد بهاء المدينة، وتركب أطراف جسدها الممزق، فعملت على لمِّ شمل الكثير من الشباب الذين يهتمون بالموسيقى وألعاب الشارع والمسرح والرقص، بل الأبعد من ذلك جاءت بأفكار تساير خطاب الحداثة وتعطي المعنى الحقيقي لمفهوم المدينة عبر مشاريع فنية نذكر مثالا "الشوارع المنوذجية" بالمدينة.
ولأن التاريخ في مجمل تحولاته التي لا تكون غالبا سلسةً، شاء أن يصطدم الفكر المحنط والمخشب مع الفكر التجديدي والحداثي، عملت المؤسسات المخول لها قانونيا ودستوريا دعم الجمعيات النشيطة بالمدن على مواجهة ملفات الدعم وحاملي المشاريع الفنية كفرقة "الاوركيد" ومحاربتها من خلال نهج سياسة صم الآذان وتجفيف المنابع وتجاهلها. مازلنا نتذكر ما قاله الحبيب الشوباني ذات دخول مدرسي إذ اعترف بالقول: إن مجال تمويل المجتمع المدني أقرب ما يكون إلى الغموض، لا نملك شيئا اسمه تقرير وطني حول تمويل الجمعيات، رغم أن منشور الوزير الأول السابق السيد إدريس جطو الصادر سنة 2003، ينص على ضرورة إنتاج هذه الوثيقة.
وما يمكن استنتاجه من كلام الوزير أن جمعيات كثيرة تستفيد من الدعم في صمت مريب، حيث تصبح مصدرا للريع المكشوف، خاصة المؤسسات التي تنتمي إلى الأحزاب والتي تدور في فلك المسؤولين، ولدينا في مدينة بني ملال نموذجا صارخا لجمعية خلقتها الولاية لتتخصص في السينما والموسيقى والمسرح واستفادت من دعم بالملايين في أجَلٍ يطرح أكثر من تساؤل، ولا يختلف اثنان أن الغرض من هذا كله هو الانفراد بـ"الكعكة" وجعل الجمعية جمركي حدود.
أربع سنوات من الاشتغال لفرقة الأوركيد، حصدت عشرات الجوائز الوطنية الكبيرة، في معظم مدن المغرب، دون سنتيم من دعم مؤسسات المجلس البلدي ولا الولاية، ولا حتى دون كلمة شكر، في الوقت الذي تستقبل فيه فرق مسرحية أخرى بالورود والاحتفال والاعتراف ويتم تخصيص وسائلا للتنقل وأغلفة مالية لا بأس بها لتسهيل عملية المشاركة والتكاليف المكلفة.
أكثر من ذلك نظمت فرقة الأوركيد للمسرح بمدينة بني ملال أول ملتقى لها، واستقبلت شخصيات وطنية وازنة واستضافت فرقا مسرحية كبيرة وكرّمت وجوها سينمائية وتلفزية من نفقاتها الخاصة، رغم ملفات طلب دعم ملتقى الأوركيد الأول وهو الأمر الذي قوبل بتجاهل صارخ.
من المحزن جدا، أن تعرف الفرقة نجاحا باهرا خارج ميدان بني ملال، وحصولها على جوائز كبرى وطنية وتلقيها دعوات دولية للمشاركة في كبريات المهرجانات في صربيا وكندا وجنوب أمريكا وتونس ومصر والجزائر، ثم تجد نفسها أمام حاجز مادي يقص جناحها ويوقف طموحها.
إن همّ شباب الأوركيد الذين أغلبهم طلبة، هو الحفاظ على موروث فني وثقافي بمدينة بني ملال، وإعادة الاعتبار لجزء كبير ومهم من تاريخها الفني ولأعلامها وروادها، وهي أمانة على عاتق جيل الأوركيد بالخصوص ومن يتقاسم معهم هذا الهم وهذا الغليان.
 أن نصنع جيلا من الشباب القادر على انتاج الفكر السوي والسليم وتشجيعه على الإبداع، أكيد أفضل من دفعه للانضمام إلى فكر التطرف والانغلاق الفكري.
وقد أصاب علي السام عندما قال: "كلّما حُرِم المُجتمع من ممارسة الحياة، كلّما زاد تعطُّشه لممارسة الموت".

 

صحفي مغربي