عندما انتفض الشباب الليبي عام 2011 متأثرا بجيرانه في مصر وتونس قاصدا تغيير واقع متراكم من التهميش أملا في ما هو أفضل، لم يكن أحد يدرك أن تلك الإنتفاضة الشعبية ستتحول يوما الى ما يشبه النكبة! فقد سارت الأمور الى ما هو أسوأ بكثير مما كان عليه الوضع أيام حكم القذافي، فهاهي ليبيا تعيش منذ ذلك التاريخ واقعا مضطربا بائسا من عدم الاستقرار، في جوف فوضى سياسية وأمنية عارمة شوهت كل معالم الوطن والمواطن، وجعلت من ليبيا بؤرة للفساد ومرتعا للمفسدين الذين عاثوا فيها فسادا وإفسادا بدون أي واعز من ضمير، فتحولت ليبيا من دولة واعدة تحاول النهوض الى دولة فاشلة تنحدر بإستمرار.

إن المتتبع للشأن الليبي منذ أحداث فبراير 2011 يدرك أن ما يسمى "الأمم المتحدة" تلعب دورا اساسيا في كل ما جرى ويجري على الساحة الليبية، فإبتداء كانت قرارات مجلس الأمن التابع لهذه الهيئة بما اسموه حماية المدنين جواز سفر للتدخل الخارجي السافر في الشأن الليبي، عندما أوعز لحلف الناتو بالتدخل العسكري تحت ستار الحظر الجوي فوق الأجواء الليبية، واستغل ذلك القرار للقضاء على حكم القذافي من خلال تدمير شامل للبنية العسكرية الليبية القائمة، ففي الوقت الذي كان فيه الليبيون ينتظرون عهدا جديدا من الحرية والحياة الديمقراطية وإعادة بناء الدولة، تخلّت الأمم المتحدة عنهم وتركتهم يواجهون مصيرهم المضطرب، الأمر الذي نتج عنه تغوّل بعض القوى الجهوية والقبليّة ومحاولتها فرض نفسها بقوة السلاح.

وعندما عجز "المؤتمر الوطني" عن انجاز استحقاقاته المتمثلة في الدستور، ومن ثم اجراء انتخابات دستورية، وتجاوز المدة المحددة له وفق الإعلان الدستوري الصادر في اغسطس 2011م اندفعت فاعليات شعبية ليبية الى التظاهر في الميادين رافضة للتمديد، وتحت ضغط الشارع اضطر المؤتمر الوطني الى إقرار مرحلة انتقالية أخرى، من خلال اجراء انتخابات جديدة لجسم آخر وهو "مجلس النواب" حيث تم فعلا مع النصف الثاني لعام 2014 اجراء تلك الانتخابات، إلا أن بعض التيارات داخل كتل المؤتمر الوطني ومن خارجه لم ترض بالنتائج، فرفضتها وأنقلبت عليها وتطور الأمر الى نشوب قتال مسلح في بنغازي بين مناصري المؤتمر الوطني من مجموعات مسلحة أغلبها ذات توجه ديني مثل انصار الشريعة وغيرها وبين الرافضين للتمديد من قبل مجموعة من العسكريين بقيادة حفتر والتي سميت بـ "عملية الكرامة".

إذا يمكن القول الآن، أن الأمم المتحدة قد خدعت الليبيين عام 2011، عندما شرعنت عبر قرارات مجلس الأمن للنيتو بالتدخل عسكريا للإطاحة بنظام القذافي، بحجة حماية المدنيين ثم تركتهم للفوضى وعدم الاستقرار، فقد عجز الليبيون عن ادارة شئونهم لوحدهم فيما بعد بشكل سليم، نتيجة بروز اتجاهات وتيارات اسلامية وجهوية وقبلية مختلفة الرؤى، الأمر الذي سبب في إرباك المشهد الليبي سياسيا وأمنيا، فلم يعد بمقدور الليبيين التوافق فيما بينهم في ظل ظهور كتل وجماعات متنافرة في المؤتمر الوطني العام، "الجسم المنتخب في أول تجربة ديمقراطية بعد الإنتفاضة"، وهذا ما عزز من أن يستمر دور وتدخل منظمة الأمم المتحدة في ليبيا، فكانت تتوالى تكليفات المبعوثين في ليبيا من طرفها، وقد ثبت فشلهم للأسف ولا يزال. 

وفي العام 2014 عندما انقسم الليبيون وتحوّل الصراع بينهم الى نزاع مسلح فيما سمي بـ "فجر ليبيا" في العاصمة بين مؤيد لاستمرار المؤتمر الوطني ومعارض انتهت الى تدمير المطار الدولي وسيطرة المؤيدين للمؤتمر في حالة انقلاب واضحة على نتائج انتخابات مجلس النواب الجديد الذين منعوا من التواجد في طرابلس ورحلوا الى طبرق!، وبالرغم من تواجد البعثة الأممية في طرابلس ومتابعتها عن قرب لهذا المشهد إلا انها لم تحرك ساكنا وأكتفت بالتفرج عن بعد ليستمر تقاتل الليبيين وتخريب الدولة وانهيارها لتسجل بذلك تخاذلها المشين في حق الشعب الليبي.

وأمام تأزم الوضع الليبي وإزدياد فجوة الإنقسام بين الليبيين والمتمثل في وجود جسمين تشريعيين ، مجلس النواب "المنتخب" في طبرق والمؤتمر الوطني "المنتهية ولايته" في طرابلس، توازيهما حكومتان واحدة في الشرق وأخرى في الغرب، استمرت الأمم المتحدة في تدخلها وانتقلت من مهمة المراقب الى مهمة الوسيط! لقد كنا نأمل أن تكون وساطتها في صالح عودة استقرار ليبيا وانتهاء مرحلة الفوضى الأمنية والسياسية لكنها لللأسف عملت على تكريس حالة الإنقسام عام 2016 من خلال اعترافها بالأجسام المتضاربة فقد انتجت لنا عبر مؤتمر الصخيرات ثلاثة اجسام ابقت فيه على المؤتمر الوطني المنتهية ولايته تحت اسم جديد وهو "المجلس الاستشاري للدولة" في محاولة استرضاء على حساب مصلحة أمن واستقرار الشعب الليبي.

لقد كان ممكنا أن تعترف الأمم المتحدة فقط بمجلس النواب المنتخب وحكومة واحدة، ولو حدث ذلك لتجنبنا كل هذه السنوات من المعاناة والإحتراب الذي لايزال قائما حتى الآن! إن ذلك لا يمكن تصنيفه إلا في اطار التآمر على الليبيين واستمرار معاناتهم، وهو ما تكشف بعد أن تم تسمية المجلس الرئاسي الذي ولد منقسما، وعجز عن الحصول على اعتماد لحكومتة من قبل مجلس النواب لمرتين متتاليتين! وبذلك استمرت الحكومة التابعة لمجلس النواب في البيضاء وحلت حكومة بالتفويض محل ما سمي بحكومة الإنقاذ في طرابلس، واستمرت الأمم المتحدة في التعامل مع الطرفين بحكم الواقع حتى الآن، مجمل القول أن الأمم المتحدة خدعت الليبيين في  2011 وخذلتهم في 2014 وتآمرت عليهم في 2016 ، فهل يدرك الليبيون ذلك فيتوافقون ويلملمون جراحهم؟! أم يستمر العناد ونزيف البشر والثروة .  

عبيد أحمد الرقيق

[email protected]


الآراء المنشورة ملزمة للكاتب و لا تعبر عن سياسة البوابة