أتهم السيد ما يكل ميتشر وهو سياسي بريطاني عمل وزيرا للبيئة فى حكومة بلير, الولايات المتحدة الأمريكية بأستخدام الحرب على العراق وبصورة أعم مكافحة الأرهاب (....) كغطاء كاذب لبسط سيطرتها على مقاليد العالم وعلى أحتياطي النفط فى المنطقة مستغلة في ذلك تراجع النفوذ الذي كان يشكله الأتحاد السوفييتي سابقا.

قال السياسي البريطاني فى مقال نشرته ( الغارديان ) قبل نحو عقد أن الولايات المتحدة خططت لتدخلها العسكري فى أفغانستان والعراق قبل خسارة نيويورك لقرطيها فى مانهاتن في11/9/2001 بكثير, وأضاف : أن الحرب المزعومة على الأرهاب أستخدمت بصورة كبيرة كغطاء كاذب لتحقيق أهداف أمريكية أستراتيجية وجيوسياسية أوسع , وأستطرد : أن الحرب العالمية التى تقودها واشنطن على الأرهاب تحمل بصمة أسطورة سياسية ترمي الى تمهيد الأرض لأهداف مختلفة تماما , وهي الرغبة الأمريكية للهيمنة على العالم عبر السيطرة بالقوة على الأحتياطي الهائل من النفط اللازم لتحقيق هذا المشروع .

تجمع معظم الدراسات حول المجتمع الأمريكي على أن الامريكيين فى أغلبهم نتاج تربية دينية محافظة فى الاساس , وهو ما دفعهم طوال قرنين للعزلة عن أحتدامات الأوطان القديمة ( أوروبا ) والحياة بعيدا عن مجرياتها الدموية .

فى القرن التاسع عشر بدأت في التشكل داخل المجتمع الأمريكي نواة تجمعات صناعية تحالفت وراء أبواب مغلقة مع جنرالات يتوقون للحروب, ورجال أعمال يعتنقون الجشع , ورجال مصارف يحلمون بعباءة الدولار تحتوي العملات الأخرى .. تحولت هذه النواة بالأنشطار السرطاني الى خلايا داخل الكونغرس (( مجلسي النواب والشيوخ)) وبطبيعة الحال داخل المؤسسة العسكرية .. كانت هذه الخلايا تعي ( بتوافر المعلومات ) طبيعة المجتمع الأمريكي البسيطة التى تستحوذ عليها مفاهيم الأستقامة والسلام والركون للعزلة التى يوفرها بحر الظلمات . .. ولذلك كانت تحركاتها حريصة تماما على التلفع بتلك المفاهيم ظاهريا , فيما ثبت بعد ذلك أن دلالات تلك التحركات كانت متناقضة تماما بل ومضادة لتلك المفاهيم.

يروى عن الكاتب الأيرلندي ذائع الصيت برنارد شو أنه قال ذات حديث عن دعوة له لزيارة أمريكا : هناك من يصفني بأنني كاتب ساخر, ولكنني لا أتخيل أن أصل الى هذه الدرجة من السخرية وأنا أرى أمريكا وتمثال الحرية ينتصب قبالة شواطئها الشرقية .

منذ أن اطلق الرئيس الأمريكي مونرو مبدأه في 2/12/1823 حول المجال الحيوي, والظاهر فى أمريكا غير الباطن على صعيد التعاطي مع الشأن السياسي الخارجي .. ثم جاء مبدأ الرئيس روزفلت فى الشهر نفسه من العام 1904 ليؤسس الهياكل بعيدا عن عيون دافعي الضرائب .. كانت العيون المغمضة تراقب ( حكامهم الطيبيين ) وهم يشنون الحرب على المكسيك 1846 والتدخل العسكري فى كوبا 1898 والحرب ضد اسبانيا والتدخل فى هاييتي والدومينيكان وهندوراس والهجوم على بنما وكولومبيا والتدخل فى فنزويلا ونيكاراغوا وكوستاريكا بذرائع الدفاع عن الحرية, رغم أن مبادئ مونرو وروزقلت معروفة ومنشورة لمن يرغب فى المعرفة والتأكد من أن حزمة المبررات التى كانت واشنطن تسوقها لتلك الأعمال الأرهابية فى واقع الأمر كانت كاذبة ومضللة .

كانت العيون المعصوبة لتمثال الحرية قبال الشاطئ الشرقي لنيويورك المبهرة أستنسخت أحداق البشر من سكان تلك البلاد , فصارت الحرب سلاما, والتدخل العسكري اسعافا وتضميدا وانقاذا .. ولسؤ حظها الجغرافي تحولت أمريكا الوسطى والجنوبية الى ساحة مستباحة لجنود يطلقون النار وهم يرفعون رايات السلام , في تذكير لما قام به هتلر الذي كان لا يتوقف عن الحديث فى خطبه عن السلام والأستقرار وجيوشه تتمدد دمويا فى اوروبا , .. في الثالث من شهر يناير 1846 وتحت قبة البرلمان (( الكابيتول)) أعلن نائب ولاية ماساشوستي : أن قدرنا الواضح هو في أنتشارنا في انحاء القارة كافة .

اللامبالاة هي من يحكم أمريكا , يقول السياسي الفرنسي ميشيل جوبير وزير الخارجية الأسبق وهو يصوغ رسالة الى أمريكا نشرها في 1999 وضمنها كتابه المعنون ( الأمريكيون ) .. ويشيرفيه بوضوح أن رئيسين أمريكيين هما ويلسون وروزفلت ورطا بلادهما فى حروب عالمية دون أن يفصحا عن نواياهما للشعب حتى عبر ممثليه اعتمادا على اللامبالاة التى تسيطر على الجميع تقريبا خارج شبكة الخلايا التى تدير خيوط اللعب .

ويلاحظ جوبير وهو يشرح خفايا الدهليز أن الرئيس وودر ويلسون أهتم فى في 1917 بالميل الواضح للميزان لصالح السيطرة الألمانية المؤدية بالضرورة هنا الى الهيمنة على المحيط الأطلسي .. لكنه وهو يعد للحرب خاطب الشعب عن الحقوق الدولية للملاحة فى البحار والمحيطات وهي الحقوق التى لا يمكن (( كما قال )) الحصول عليها الا بواسطة القوة والحرب  وصولا لتحقيق الحرية والسلام وتأكيد الديموقراطية  والعدالة وحقوق الشعوب في الحياة الآمنة المطمئنة , قبل أن يعلن بصوت مدو أن الكونغرس لم يوقع على معاهدة فرساي .. وكان عدم التوقيع على المعاهدة لا يعنى الا الذهاب للجبهات.

الرئيس روزقلت حصل من الأرهاب الهتلري على مشجب لا يحتاج الى اقناع كبير, لكنه مع ذلك دخل الأنتخابات وهو يلوح ببرنامجه الرافض للتدخل فى الحرب المشتعلة فى أوروبا بين الحلفاء والمحور, والتعهد بعدم ارسال ( الأولاد ) للحرب .. حتى وهو يرصد فى 1940 أن أمريكا لا تملك الخيار بين الأنعزالية وخوض الحروب .

الخط الممتد من الرئيس هاري ترومان الذي أمر بألقاء القنابل على هيروشيما ونجازاكي الى ليندون جونسون قاتل الفيتناميين كانت الذرائع والمبررات جاهزة دائما لتزيين القبح .. وتبرير التورط الأمريكي في الهند الصينية, في حين لم تكن المصالح الأمريكية مهددة بأي شكل على الأطلاق .. كان جون كينيدي وهو مازال عضوا( سيناتور) في الكونغرس يوجه أنتقاداته اللاذعة ضد الحرب الفرنسية في الجزائر, في نفس الوقت الذي يعلن فيه أن تدخل بلاده فى الهند الصينية هو أكثر من واجب وأكثر من ضرورة .

السياسي الفرنسي يكشف في كتابه الممتع كيف أن اللامبالاة  سمة أمريكية ليس فقط لدى الشعب المدجن بالميديا ولكن حتى قيادته التى لا تكترث اطلاقا حتى بحلفائها.. في ابريل 1949 وأثناء التوقيع على معاهدة الناتو ( حلف شمال الأطلنطي) الذي تدافع الأوربيون المرتعدون يسوقونه للأمريكيين ,كان وزير الخارجية الأمريكية دين اشيسون في واشنطن يتعهد بأن مهاجمة أية مدينة أوربية لن يكون باية حال من الأحوال مماثلة لمهاجمة أية مدينة أمريكية , فيما كان التمركز الأمريكي في أوروبا لأكثر من ثلاثة عقود يعطي الأعتقاد بعكس ذلك .

في السادس والتاسع من أغسطس 1945 وفي ظل واقع يفرض الأستسلام على اليابان بعد أندحار المحور , استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية أسلحة الدمار الشامل بمحو مدينتي هيروشيما ونجازاكي من الخريطة ,دون أن يضطر مجلس الأمن القومي الى ابلاغ الرئيس الجديد ترومان بوجوب ابلاغ الحلفاء بالأمر مسبقا ... قبل ذلك بستة أشهر وافق الرئيس المنتهية ولايته ايزنهاور في مؤتمر يالطا مباشرة على التقسيم الذي أقترحه رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل عليه وعلى الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين, وهو يوجه خطابه الى ستالين الذي كان يصفه فى مجالسه الخاصة بالفلاح الجورجي الفظ.. اعترف ايزنهاور بما اسماه فريق الخلايا ب ( الأوضاع المكتسبة ) مقدما نصف أوروبا لسيد الكرملين , دون أن يضطر ايضا الى مجرد الهمس للحلفاء بالأمر , اللهم أذا استثنينا تشرشل الذي كان يتوهم حتى نهاية حياته انه بوسعه ترويض العربيد اليانكي .

كان ترومان واضحا وهو يقول قبل أن يصل الى البيت الأبيض ( اذا تبين لنا أن ألمانيا هي التى سوف تكسب الحرب , فعلينا مساعدة روسيا, واذا كانت روسيا هي من سيربح الحرب فعلينا تقديم كل ما يلزم من عون لألمانيا , بهذا فقك ندفعهما للتقاتل المدمر)

منذ مطلع الأربعينيات والحرب تعصف بالقارة العجوز بدأ الأمريكان الاستعداد للحلول محل فرنسا فى الهند الصينية , فرنسا الحليفة , فرنسا الصديقة , ابنة العم , أحد جذور الأسلاف , وذلك بزعم مساعدة دكتاتور صغير ( نغو دينه ديام) , ولتحتدم طوال ثلاثة عقود ونصف سلسلة  هائلة من الحروب والمأسي , وما لا يمكن رصده من عذابات ومعاناة قاسية ومريرة فتكت بشعوب المنطقة . كان الأمريكيون يعتقدون بالتبريرات التى تقدمها الخلايا المدرعة بالميديا و( الثقافة ) الى أن فضحت جسارة الفيتنامي النحيل الكذبة الورقية .

يقول ميشيل جوبير ( ثمة مياه متقلبة , جارية , ومتجددة , أليست هذه أول حقيقة تكتنف بلدا مازال فى طور التشكل ؟ .. ومع دستور 1787 الثابت ,تبدو الولايات المتحدة الأمريكية فوق هضبتها البرية بين الأطلسي والباسيفيكي محكومة بالخلود على غرار هضبة سيرانيفادا الغرانتيينية . ها انها تهرم وتشيخ قبل أن تكتمل رغم قصر تاريخها _ قرنان فقط _ بعد أن كانت لها انطلاقة مذهلة ).

 ويختم الدبلوماسي الفرنسي كتابه بالقول (كلنا يجهل اي شعب ستكونه غدا وأية دولة بل واية لغات التى ستنطق بها, وهي رغم ضمانها لكل شئ _ خصوصا القوة والغني _ تبقى غير واثقة من نفسها ))

 

Mahmoud Albosifi
[email protected]