عندما تمكن اعرابى الجزيرة من الوصول مع الاسلام الى ابواب بلاد فارس وسواد ما بين النهرين , وشرع في التفاعل والتثاقف مع تلك الشعوب , بقبضة خشنة حيننا ويد ناعمة احياننا اخرى . جاءت ونتجه لتلك المثاقفة والتفاعل . صِيغ جديدة للاسلام امتزجت بخشونة الاعراب وتحضر وتمدّين بلاد فارس وسواد ما بين النهرين . وانتهى الى الوجه الشيعى الذى نُعاصره . والذى اضاف ماضيا حاضر . لمزارات ومحجّات الاسلام بمكة والمدينة , محجّات ومزارات جديد , في عتبات النجف وبغداد بالعراق .وحوزات مرجعيات قم في ايران . اغنت هذه البيئة واثرة رسالة الاسلام , بما تمخض عنها من رموز في مجالات الفكر والعلم والادب . اضافت بهم خطوة هامة لمسيرة الحضارة والحياة . فصار الاسلام وتمكن بهذه المُراكمة العلمية المعرفية , من مزاحمة رواد حضارة العصر الحديث على بوابة النادي الذرى . الذى لا يحظى بشرف الوصول اليها , الا من كان له كعب عالي في فضاءات الفكر و العلم والمعرفة . متوسلا في ذلك ومُجتهدا في استثارة واستفزاز قدّحة عقله وفكره .

     في حين نجد الوجه الاخر . الذى انساح وتمدد غربا , على رواحل وسروج اعراب الجزيرة واكتاف راجِليهم , لم يستطع هؤلاء تجاوز اعرابيتهم , ولم يستطع تثاقفهم وتفاعلهم مع ارث تلك الشعوب من ترّويض اعرابيتهم وتهذيبها . واحتفظ ذلك الاعرابى بتيمته في وجهها القبَلِي , ذات الكيان الاجتماعى المُغلق , رغم عبوره ومروره بفضاءات ثقافية متنوعة , اثناء مراحل تقدمه شرقا . الذى انتهى به عند ضفاف الاطلسى المغاربية  وحتى الاطراف الشمالية لشبه الجزيرة الابيرية .

       ثم ما لبت , ان ارتد على عقبيه الى حيث كان . ليقبع متقوقع في داخل صدفة اعرابيته , مُسّتلهمها ومستدرجها في مفاهيمها وادواتها ومفرداتها . والتى منها وقوفه على الاطلال , مُسّتذكر ماضيه مع سلمى وليلى وعزّة . بصِيغ تمكن من تطّوِيعها الى ومع ما يلّهج به لسانه بعديد العاميات واللهجات المحلّية . فمثلا . نجده ومن فوق الرقعة الجغرافية الليبية , وعند مروره بأطلال ديار ومرابع حبيبته , ينشد مستذكرا واصفا قائلا وبالعامية الليبية . *(خَلا واتْقجّول فيه ارْياح + + قَعدْ مطّراح ++ اوْهامْ ام إعْيون اسماح) . مما يجعل انشاده وقوله هذا , يسّتحث ذاكرة المستمع المتلقي , نحو استدعاء واسترجاع من الماضى البعيد , قول ذلك الشاعر العباسى . وهو يسخر مُستهزئا من الاعرابى قائلا (قل لمن يبكى على رسّم درس ++ واقفا ما ضر لو كان جلس) (ترك الربع وسلمى جانبا ++واصطبح كرخيّة مثل القبس) .         

      وبالرجوع الى النص المقدّس لرسالة الاسلام . والذى يقول في العديد من مواضعه , بان هذا الاعرابى لم يستطيع ان يتحرر ويغادر (اعّرابيته) الى مرحلة التحضّر والتمدّين , بل ضل قابع فيها مُعاند عاجز منافقا . ومن هنا – وفى تقديرى – استطيع القول . بان عرّاب (سايس - بيكو) . قد انتبه الى هذا الاقرار . وقد تمكن به ومن خلاله .  من وضع يده على مفتاح شخصية هذا الاعرابى , وبه استطاع اللوج والتسلل اليه , في مكنونات خريطته الاجتماعية النفسية الثقافية   . 

      ومن خلال هذا الولوج الى خريطة الاجتماعية الثقافية . تمكّن عرّاب سايس - بيكو , فى زمن ما بين الحربين , كما يقول التاريخ في احداثه , من اعتلاء اكتاف ذاك الاعرابى , وسخر راحلة بعيره وسرج فرسه ودراعه وسيفه . ووظّفها جميعها في إنفاد مشروعه  . ليصبح ذلك المشروع , واقع ملموس في فسيفساء جغرافية , تغطى كل رقعة شرق المتوسط وجنوبه . واجتهد وعمل على حضور ثقافة الاعرابى , وعلى نحو دائم , كمُفعّل فاعل لتغديه الحياة في جميع وجوهها , على ارجاء جغرافية سايس- بيكو , من خلال تنّصيب هذا الاعرابى حارسا وقيّما امين على هذا المنجم الطبيعى و الخزان البشرى الهائل . بعدما جعلهما العرّاب حكْر على نفسه , وفى خدمة بلاده . 

   قد نستطيع قبول هذا القول . عندما نعرف بان هذا العرّاب العتيد . قد قام بترّحيل كل ما وقعت عليه يده . من مخّطوطات ومراجع ووثائق وكتب من الفضاء الجغرافى لسايس – بيكو , التى تتناول هذا الاعرابى في احواله الاجتماعية والروحية والتاريخية والفكرية الخ . واحتفظ بها في عاصمة بلاده . بل وعمقها بحثا وتنقيب ميدانيا , عبر تجّول رحّلاته في هذا الفضاء الجغرافى . ومن هنا كانت وصارت بلاده , محجّا ومزارا , لكل دارس وباحث ومنقّب في شئون الاعراب واحوالهم .

   فقد شاهدت فى لقاء متلّفز مع منتصف تسعينات القرن الفائت على وجه التقريب .  احد القنوات وهى تستضيف *الدكتور النفيسى كما سمّى نفسه - اعتقد بانه كان كويتى - تحدث في ذاك اللقاء في امور عدّة . قال من بين ما قال . بان التحضير والاعداد لنّيله درجة الدكتوراه , قد كلّفه عناء مشقة الحج الى لندن , والاعتكاف في ذاك المحج لمدة ثلاث سنين من الزمان  , بالقرب من مكتبة وزارة الخارجية لذلك البلد . والتى تضم كل المراجع العلمية , التى يحتاجها وتتناول مبّحثه في تخصصه الدقيق , والذى كان وكما قال , في احد جوانب فرع من فروع المذهب الشيعى , وهنا وبهذا نعرف بان تلك المدينة , قد صارت محجْ للأعراب ودارسي شئون الاعراب . وللملاحظة .  بان بلد الدكتور لا تبعد سوى مرمى حجر عن عتبات الشيعة بالعراق , وعن حوزات قم في ايران ايضا ! . 

       كنت احاول الوصول بالقول . بان هذا الانبعاث الذى يعصف دما ودمار وخرابا , بالفضاء الجغرافى لمنظومة سايس – بيكو . والذى تصادف إيقاظه  واستيقاظه , مع وجود كل هذا الكم الهائل من ادوات الدمار والخراب , قريبة وفي متناول يده , بِدأ من السكين كاداه للذبح  وحتى الطيران الموجّه عن بُعد . وليس انتهاء براياته وشعاراته واناشيده ذات النبرة المهدد بالخوف والموت . كل هذا وفى مجّمله كان يرتكز ويتّجه ويستشّرف , خطوة فى زمن ذاك الاعرابى , قد ثم وأده في مهدها , يسعى ويجتهد وفى زمننا هذا , نحو إحيائها في المسجد الضِرار . ليجعل منه مزار ومحجا وقِبّله يَسّتقبلها بوجه اعّرابيته اينما حل . في محاولة منه لبعث ما ثم هدمه وتحّريقه بالنار في كنف وبيد تلك البدايات البعيدة . 

     ولكن الاستفهام الضاغط والمستند على كل ما جاء في السطور السابقة . يقول :- هل ثقافة هذا الاعرابى , تستطيع انتاج كل هذه القدرة التنظيمية . التى تُدير كل هذا الدمار , الذى يضرب بالفضاء الجغرافى لشرق المتوسط وجنوبه ؟ ! . أم ان ذلك يحتاج عقل استثنائي مُركّب  ليس وقطعا بحوّزة الاعرابى , ليولّد ويبلّور به هذه القدرة التنظيمية في آلية . لها كل هذه الدقة  في الاعداد والتجهيز والتخطيط والادارة , وخلق البدائل لتخطى الطارئ المفاجئ  وايضا . وهل ثقافة هذا الاعرابى ,  التى تنهض على المشاعر والعواطف , تتوافق مع هذا العقل البارد ؟ . الذى يتولى ويُدير هذا , الذى يعصف دما ودمار وخراب . بالفضاء جغرافية سايس – بيكو . 

     ام انه تمت من له القدرة للقيام بكل هذا . ابتدأ من استدعاء ذاك الحدث , من زمن تلك البدايات البعيدة فى الماضى البعيد , وله القدرة على نفخ الحياة في جنباته , عبر تأطيره في كادر باتساع جغرافية سايس – بيكو , يظهر فيه بقبضه باطشه , يجّتهد في عرضها عبر (الميديا) وهى تقطر بالدم . وبيده الاخرى كانت تنهض راياته وشعاراته . وفى الان نفسه . كان لسانه يلّهج  بأناشيد متوعّدة شرا ومنّدرة خوفا . وله وفوق كل هذا , القدرة على إلباس وجلّببت هذا الأعرابي البسيط وجغرافيته , التى تغطى شرق المتوسط وجنوبه . بكل جلابيب هذا الرعب المدمر المُخيف  . ليجعل هذا القدير القادر من كل هذا . اداته الجديدة , التى سيعّتلى بها اكثاف الاعرابى ثانيتا , ولكن في هذه المرة , ستكتسى خُطّوته العتيدة , بصبّغة مقدّسه لها محجّاتها   ومزاراتها وقبّلتها ايضا  . 

   واذن وبعد كل ما فات . هل نستطيع القول . بان هذا التأزم الذى يضرب بجنبات فضاء شرق المتوسط وجنوبه  , يرجع الى هذا الاعرابى الكامن في ثقافتها ؟ . وان هذا التخلف الذى اتخذ منها حاضنة له , على امتداد قرن من الزمان من عمر منظومة سايس- بيكو , يرجع الى عجز هذا الاعرابى عن تجاوز ذاته بالانفتاح على الاخر ؟ . ولكن . هل الوصول لتخطى كل هذا ؟ . يثم عبر اقناعه لإناخة بعيره , بل وعلى مساعدته لعقر ناقته كى لا تقوم ثانيتا , وتشجيعه على الترّجل من على راحلته , واستدراجه للتخلي عن ترحاله الدائم في صحراء تيه لا نهاية له  . والاتجاه به برفقة العلم بسلطانه وادواته ووسائله , نحو الاستقرار والاستيطان , وحثه على الاستثمار بعقله وجهده في التراب الذى بين قدميه , في الوعاء الجغرافى لوطنه . وليس في غير وعاء وطنه . ولكن هل هذه الانتفاضات التى عصفت وتعصف بفسيفساء شرق المتوسط وجنوبه , مند قرابة عقد من الزمان , تحمل في طياتها كل ما قد يدفع بخلق الظروف والبيئة المناسبتين . التى تساعد على تفكيك هذا الاعرابى في ثقافته . والتى قد تدفع  في اتجاه خروج هذه الجغرافية من متاهات التأزم والتخلف ؟ . ام انها تحمل في طياتها ايضا , كل الادوات والوسائل التى تُحفّز وتساعد منظومة سايس – بيكو العميقة , على اقامة قبّلتها ومزارها ومحجّها في (المسجد الضرار) , والذى به تُعيد انتاج نفسها من جديد , ولكن هذه المرة بصيغة مُقدسة ؟ ؟ . 

    *هذه الابيات من الشعر الشعبى . تُقرأ بالعامية الليبية بلهجة اهل الجنوب والوسط الليبيى  .

   **الدكتور النفيسي . كان على المذهب السنّى , وتقول بعض الكتابات , بانه كان قريب من التيار الردكالي . الذى تمكن فصيل من اتباع هذا التيار , من احتلال الحرم المكي اواخر عام 1979م .                               

الاراء المنشورة ملزمة للكاتب و لا تعبر عن سياسة البوابة