يستدعي الحراك الشعبيّ اليوم في البلاد العربيّة عمومًا، وفي تلك الدوافع التي ساهمت في تأسيس "الربيع العربي الأول ّ" خصوصًا، إعادة التفكير والنظر في لب مؤسّسة الفكر السياسيّ ومستقبل الأجيال ومالآت الدولة القديمة، وإمعان النظر ودراسة شعارات "السلطة"، و"المعارضة"، فلقد أشار الباحث والاكاديمي "هانز كالسن" الي أن تعريف فلسفة الدولة بأنها الإقليم والشعب والسلطة، وأضاف البعض اليها مشروطية الإستقلال كونه دلالة علي القومية الحديثة للدولة وتمييزاً لها بحكم خضوعها للنمط الدولي والسياق العالمي. ويذهب الباحث "هانز" لأبعاد الدولة في سلطانها وسلطاتها وفرض سيادتها علي اقليمها ورعاياها، وذلك من خلال أجهزة بيرقراطية إكراهية رقابية تنتزع سلطان الأفراد والشعب بشكل ممنهج لتحقيق مصالح بسط نفوذها وسيادتها بشكل دائم ومستمر وبصورة منهجية. 

وبهذا الوصف، نستطيع أن نذهب الي ما أشار اليه الباحث الفرنسي "ميشيل فوكو" والذي يري فيه بأن الإرادة الشعبية وربطها بإرادة الأمة ماهي الا وسيلة أخري من وسائل اعلاء شأن الدولة وسبقها علي الإرادة الفردية للشعوب واستحقاق التضحية الفردية من أجل بقاء الدولة. 

أدوات الدولة للبقاء والسيادة...

لتحقيق مظاهر سيادة الدولة الحديثة، فإن ذلك يستلزم وضع دستور وتشريع وقانون، وهو منهجية تتبناه الدولة من خلال ممارسة الكثير من الضغوط للتعبير عن الإرادة المطلقة السيادية والشرعية والقيمية دون استئناف او تدويل من سلطات أعلي، أي بشكل او بآخر، يعتبر هذا النمط أيضا، أداة للعنف وبالأخص ضد كل من يرفضه بإعتباره خرقاً للإرادة القانونية وتثبيتاً للسيادة الداخلية، وهو ما يعرفه الدكتور "وائل حلاق" في كتابه الدولة المستحيلة (بأنه السبيل الوحيد لإسقاط الإرادة السيادية القائمة، لتحل محلَّها إرادة جديدة)، رغم حقوق المواطنة والتفويض المزعوم الممنوح من قبل الملاك. 

ولذا فإن الصلاحيات المطلقة تفسح المجال الي ديكتاتوريات مطلقة وتدفع لتوافقات مصلحية بعيدة عن تحقيق المصالح العامة وتغييب المصلحة المجتمعية جماعياً وفردياً، ولهذا تحتاج تلك الأدوات الي الرقابة والترشيد لمنع التغول والسيطرة وحجب وصولها الي طغيان سياسي يكتسح كافة الجوانب المعيشية للأمة ويخضع مواطنيها، ومن هنا يتوجب تأسيساً وضع دراسات مستفيضة تشريعية قبل صدورها لمعرفة ابعادها ومنح دور رائد لمؤسسات المجتمع المدني وكل الفواعل غير "الدولية" وغير "الحكومية" للعمل علي تصحيح المسار وتهذيب الخطاب.

إسقاط الإرادة السيادية للدولة

يذهب جل الباحثين للقول بأن الثورات تصب في تيار رئيسي، الا وهو إسقاط إلإرادة السيادية للدولة، فهو الوسيلة للدفاع عن النفس وتحييد العنف الي اقل درجاته وذلك من خلال ارهاق أجهزة الدولة، حيث يصف الباحثين الحدث وفاعليته (بالذرة الملتهبة) والتي إن تفجرت وانشطرت قبل وقتها المناسب لا يدمر الإرادة السيادية المستهدفة، بل قد ينسف أسس السيادة الجديدة الناشئة نفسها، وهو ما حدث في الكثير من الأحداث الجارية بالربيع العربي الأول.  

إتجاهات الثورة...الراديكالية والمحافظة... كما وصفها الدكتور "عمرو عثمان"

في أغلب الأحوال، تتجه المساقات الي اتجاهين أساسيين بعد تفجر الثورة (ولكل منهما شواهد وتبريرات)، أولهما؛ الإتجاه الراديكالي، وقد ينضوي تحت ذلك المسمي كل القوي والتيارات الداعمة لإسقاط جذري لمؤسسات الدولة وأجهزتها ورموزها وقياداتها، فهو تدمير شامل كامل، ويذهب المساق الثاني الي منهج المحافظين من خلال توافقات وتفضيل التفاوض -بدلاً من العنف- مع الدولة القديمة قبل وبعد سقوطها، في رؤية إصلاحية شاملة للمؤسسات وسلم إجتماعي، مع افتراض تجاهل للأسس التاريخية والميتافيزيقية، وتفضيل التدرج في الإنتقال بأقل الوسائل عنفاً. 

لا زلنا نتحدث عن صراع جديد يحاول الطرف الثوري انتزاع سيادته وارجاع حقوقه من الدولة البيرقواطية القائمة، ولازلنا نشهد طرفين رئيسيين متصارعين، الدولة -النظام القائم العميق من جهة، والكتلة الذرية الثورية من جهة أخري-، والتي إن حققت مكاسبها بإسقاط رأس النظام فهو مكسب جوهري ونجاح رمزي وسيفتح الباب لتطوران آخران، التطور الأول (الدولة القديمة) عملية الاستيعاب من خلال امتصاص الزلزال والتعامل مع هزات ما بعده، والتطور الثاني (الدولة الجديدة) عملية الإنفجار والإنشطار وذلك لعدم التوافق الكامل واختلاف المنهجيات وتباين الرؤي. 

حين يسعي المحافظين الي الهدنة والتسوية والإنتقال الهادئ والتسويات المجتمعية والإصلاح السياسي والمؤسسي، وإقرار مبادئ عدم الإقصاء والإحتواء ولم الشمل وقوانين العفو وغيرها، فإن الإتجاه الراديكالي سيعتبره إعاقة لعملية بناء الدولة، وقد يذهب الي اتهام المحافظين بالتخوين والتجريم والتواطؤ، كما أن الدولة القديمة ستعمل جاهدة للإقتراب الحذر والبطئ بقدر مناسب للإتجاه المحافظ، في كونه مانحاً فرصة ناعمة لإعادة السيادة المنتزعة، وفرصة البقاء والحياة.   

تفترق جهود الأمة وصراعها بعد الثورة بعد الوصول الي بوابات التشظي والتخوين بين الطرفين الرئيسيين وإنقسام الكتلة الثورية كما أشرنا سلفاً، لتمنح الدولة القديمة -التي قد تكون قد تعرفت علي حاضرها وتحسست طريقها والتقطت أنفاسها- لتضرب مجدداً ضربتها لإعادة السيادة والسلطة والشرعية ضد طرفي النزاع القائمين الجديدين بشكل منفرد.  وهنا تتفرَّق السُبُل بالاتجاهين ليصبح بالمشهد ثلاثة أطراف: النظام القديم، والطرف التفاوضي المحافظ، والطرف الراديكالي.

أشكال عودة الدولة القديمة

قد تتمثل عودة النظام والدولة القديمة بشكل عسكري انقلابي في بعض الأحيان او غير عسكري بحكم فشل ما ادي اليه صراع القوتين الأخريين، وهو ما يتم عادة بالتأثير المباشر ويكون عبر ظهير واعد شعبي، ليصبح النظام القديم ودولته منقذ من الهلاك (الأمن والأمان علي سبيل المثال، وأسعار السلع، والتنمية، والتوظيف)، غير أن المناخ العام واجواء ما بعد الثورة عادة لا تنسجم تماماً مع خيالات اقطاب ورموز الدولة القديمة، وهو ما يشكل عادة الإخفاق والإنتكاسة وقد يعرض مناصري دولته لإنقسامات أخري اكثر عمقاً بين ظهرانيه تنازعاً علي السلطة وأحقية القيادة، وفي كل الأحوال لن يكون مجدياً. 

وختاماً، 

لا تدرك الدولة القديمة والأنظمة السيادية البيروقراطية أو الأوتوقراطية بأن هزيمة الإتجاه المحافظ تعني بشكل او آخر انتصار الإتجاه الراديكالي، وهو ما سيدفع  مجددا بالتيار المحافظ لضرورة العودة للتوافق والتلاحم مع شطره الآخر الراديكالي ليصب جهده تجاه تقويض رجوع الدولة القديمة، وهو ما يقود حينها  الي مفترق طرق آخر أكثر تعقيداً، بخوض الطرفين معاً بصورة حرفية وجداول زمنية بجولات جديدة من الصراع ضد عودة الدولة القديمة قبل بسط سيطرتها ونفوذها وإعادة اجهزتها القمعية السيادية، وفي سباق للزمن، فقد تقضي الدولة الجديدة/القديمة علي الطرفين معاً وفق تفاهمات التساقط بين أعضاء الطرفين "الراديكالي والمحافظ" بعد ان إنهار جدار الثقة والتفاهم بينهما وأصبح يمثل سيولة وفرصة سانحة للعودة.  

الآراء المنشورة ملزمة للكاتب و لا تعبر عن سياسة البوابة