كانت لي نافذة أطل منها على أكثر من قارئ.. في أكثر من بلد عربي، كان عمودا أسبوعيا في مجلة  بانتشار الأهرام العربي.. مساحة شبه كافية لطرح بعض الأحمال الذهنية... سألت ذات حيرة الدكتور"عبدالعاطي محمد" رئيس التحرير عن الخطوط الصفراء، إذا لم نقل الحمراء للسياسة التحريرية للمجلة... الرجل شخصية خجولة، ينتظر سماع عشر كلمات ليقول نصف كلمة، ولكن على غير العادة جاء جوابه سريعا وعفويا: "المهم أن لا تكتب ما يزيد على الثلاثمئة كلمة".... كان ذلك واضحا، ولكن لزوم ما لا يلزم قال أيضا: "نحن منحناك هذه المساحة، ونحن لا نريد أن نضيقها عليك".

بقيت ملتزما بهذا العمود الأسبوعي، وتناولت في الكثير من الموضوعات، من الزوجة الخامسة، إلى اشتراكية بورقيبة، وليس نهاية بمؤخر صداق الجامعة العربية... مارست مثل كل عربي جلد الذات، ومثل كل عربي أيضا مارست جلد مصر.

لقد كتبت على الأداء السياسي المصري غير مرة في غير مناسبة، فليست مصر التي تغيب على قمة دمشق، فهي الشقيقة الكبرى التي من حقنا عليها أن تمتص تشنجاتنا السياسية، وتتحمل نزقنا السياسي... وعلى قول أخوتنا المصريين (ما ينفعش) فلا يجوز أن تقفل مصر على نفسها باب غرفتها وتمتنع عن تناول الطعام . فماذا تركت للبحرين واليمن وجزر القمر؟... فعلى رأي الدكتور "جمال حمدان" عبقرية المكان تكفي.

لم أكن أخمن في اختبار سقف المسموح به في مجلة الأهرام العربي.. كنت اختار موضوعاتي بما يمليه الراهن العربي وفقط... كان ما يزعجني ويزعج الدكتور "عبدالعاطي"، ويزعج حتى بائع "الترمس" في ميدان "العتبة" هوأن تتحول مصر من صاحبة دور كبير في العمل العربي، إلى صاحبة وظيفة صغيرة في الرداءة العربية، فبينما يتمدد الدور القطري، من حلحلت ملف المصالحة في لبنان، إلى الانفراج في ملف سلام "دارفور"، إلى الإفراج عن الممرضات البلغاريات في ليبيا . تتعثر مصر في مشاجرة بين سكان الوجع الواحد في غزة ورام الله فلا تحل المشكلة ولا تغلق الملف.

(للأمانة) لم تحذف الأهرام العربي نصف كلمة من كل ما كتبت رغم التجرؤ العالي على سياسة مصر وساستها... (وللأمانة) أيضا كانت الأهرام العربي المطبوعة الأكثر توازنا، والأكثر رزانة في التعاطي مع الملفات العربية مختلفة عن الأهرام اليومي.

لقد وافقني الدكتور "عبدالعاطي" عندما قلت له الأهرام تكاد تشبه صحيفة الرياض السعودية... كنت أتصور أنه لا يليق بصحيفة في وزن وتاريخ الأهرام أن تضع ثلاثة منشيتات على صفحتها الأولى لخبر عن ضبط أسلحة من بينها صواريخ مدفونة في صحراء الربع الخالي بواسطة الأمن السعودي.

كنت قد تابعت الخبر تلفزيونيا، وكانت الصورة المصاحبة للقصة الإخبارية تظهر كما لوأن الحادث مفبرك، ولهذا قلت ساخرا: لوتولى فريق مسلسل (طاش ما طاش) تنفيذ السيناريو لكان أفضل من حيث التقنية وأفضل من حيث الإقناع... كان رأيه أن "أسامة سرايا" رئيس تحرير الأهرام اليومي لم يتحرر من عقلية مدير مكتب التوزيع بمؤسسة الأهرام في السعودية.

المهم ظلت المجلة تتحملني وتتحمل تلك الكلمات المرصوصة في ذلك المستطيل، ولكن بعد أكثر من عام لم أكن استطيع تحمل عمود لم ينشر... لم يكن يتضمن تحاملا على مصر، كان فقط أقترب من النجع السعودي، حين تناولت مبادرة السلام العربية أومبادرة الأمير عبد الله، والمؤسسة على معادلة  (الانسحاب الكامل مقابل السلام الكامل).

من حقنا أن نتكلم  بصوت عالي حول مشروع يلغي عودة خمسة ملايين فلسطيني في الشتات ومخيمات الانتظار، وليس من حقي أن أتخطى رواية الصحفي الأمريكي "توماس فريدمان" وكيف أدى زيارة للأمير عبدالله في مزرعته، وكيف عرض على ولى العهد السعودي بأن يخلص الشرق الأوسط من حالة الركود السياسي بصفقة سياسية، وكيف رد عليه الأمير قائلا: "كأنك فتشت أدراج مكتبي".

لقد تطوع (مصطفى بكري) بنشر العمود على صفحات جريدته "الأسبوع" وتطوعت أن بحذف ما كان يشير إلى امتناع الأهرام العربي على نشره، تقديرا للماء والحبر الذي بيننا.

ما كان يضايقني هوالمبالغة في ممارسة الرقابة الذاتية، فالحكم السعودي لديه ما يقول ولا أرى من المناسب أن نكون كاثوليكيين أكثر من البابا... لعله السوق السعودي الذي لا يريد رئيس التحرير أن يفقده، تماما مثلما لا يريد أن يفقد مقابل خمسمئة نسخة تدفع السفارة الليبية فاتورتها وبسعر تشجيعي دون أن تستلم نسخة.

استدعت ذاكرتي الرئيس اللبناني "شارل الحلو" الذي خرج من صالة التحرير الصحفي إلى صالون بعبدا الرئاسي، كان حدثا يليق بأن يأتي رؤساء تحرير الصحف اللبنانية ليقدموا واجب التهنئة للصحفي الرئيس فقال مرحبا بهم: "أهلا وسهلا بممثلي الملوك والرؤساء العرب في بلدكم الثاني لبنان!".

الرئيس "الحلو" وفي مناسبة ثانية أشتكى له عدد من الزعماء العرب طالبين منه إيقاف حملات الصحافة اللبنانية والموجهة ضدهم، فرد: "كنت أنا من يود أن يطلب منكم إيقاف حملات الصحف اللبنانية الموجهة ضدي"!.

لم يكن هناك سؤال ملح في لبنان عن المال السياسي، كانوا يكتفون بالقول: "قل لي من يمولك أقول لك من أنت"... ربما كانت للفرنسيين جملتهم اللاذعة بسؤالهم المحمل بأكثر من معنى: "لماذا تشتري الصحيفة عندما يكون بإمكانك شراء الصحفي".

سؤال المال السياسي المسكوت عليه من أهم أسئلة الصحافة في زمن صارت فيه الأذرع الإعلامية قوية وطويلة ومؤثرة مع ظهور جيل مختلف من الحروب الناعمة لم تعد فيه وظيفتها الحصول على إجابات هامة لأسئلة ملحة لدى الناس على قول "تيم سياستيان" الإعلامي بشبكة (البي بي سي) كما لم تعد وقفا على إدارة الآراء ولا حتى إدارة الحقائق... لعلنا نحتاج إلى إعادة تفكيك مفردات صارت أكثر التباسا، بما فيها الصحافة نفسها والحرية نفسها.
ليس هناك ملائكة، ولا شياطين، ولكن هناك صحافة في متناول أسنان المال السياسي، الذي صار يمارس التوظيف، والتجيير إلى أبعد مداه، حتى قبل أن نضبط مكانها في منظومة الديمقراطية، أومكانتها ضمن مستحضرات الحرية.

وحتى أشعار أخر نستطيع أن نقول أهلا بكم في بلدكم الثاني مع الانتباه لفارق الجغرافيا...

 

كاتب وصحفي ليبي