المدارس الديوبندية افتتحت رحلة المسير باتجاه السلف بدوافع اصلاحية وضمن فضاءات فكرية افغانية محلية متنازعة .. واخذتها غصات محيطها وتقلبات الزمن الي انتهاج العنف , وتبدلت هنالك متوالية " حسن البنا " وغدا الاسلام " سيف  , وعمل  , وجنسية ,  وعقيدة " .. وساد السيف  " العنف "  الموقف وصار هوية للاسلام وطابع وانطباع ملازم لماهيته ..!!

حينما كون الملا " محمد عمر " تشكيلات طالبان الاولى من طلاب مدارس قرية ديوبند الهندية , وانطلق سريعاً باتجاه افغانستان يصلح ما أمكن من فساد واهتراء داخل مجتمع الافغان الفقير البائس المكتظ بالمآسي المتخن بالعناءات التي خلفتها سني الحرب , لم يهدف الي اختزال الاسلام برؤيته أو يرمي الي " افغنة " المسلمين .. بل كانت اهدافه صريحة معلنة عندما تمت له البيعة في قندهار عام "1994 "   .. وتمثلت في محاربة الفساد الاخلاقي ونشر الامن واعادة الاستقرار لافغانستان بعد خروج السوفييت وحدوث الحروب الاهلية وازديات الفقر والظلم في أوساطها ..!!

" رباني ومسعود ودوستم وخان " كانوا خلطة ساسة ومغامرون افغان جزأوا افغانستان وعملوا على تقسيمها وانفصال ولاياتها نتيجة الخلافات بين فصائلهم وولاءاتهم المختلفة وتصارعهم على السلطة .. وبفوضاهم جعلوا من حركة طالبان أملاً وطنياً للافغان وسبيلاً للحفاظ على وحدة البلاد وهوية الوطن ..!!

كانت لحركة " طالبان " هوية افغانية وهموم وطنية واعية ... ولكن ..!

تداخل الافغان العرب الذي قاتلوا ضد السوفييت مع مجاهدي الافغان  , جعل منها مشروع عالمي لخلافة اسلامية راشدية " الاسس "  , وحملوها الي خارج افغانستان بعدما تلقت الدعم وتأطرت لها ايدلوجيات عابرة للحدود , وكان لمقتل " احمد شاه مسعود " وبزوغ نجم " أسامة بن لادن " دوراً في نشر مشروع طالبان وتطويره بعدما حدث تمازج بينها وبين تنظيم القاعدة الذي تأسس عام " 1988 " الداعي  لجمع مختلف الفصائل الاسلامية بهدف الانتصار للاسلام واعلاء كلمة الله في الارض .. وكانت افغانستان قاعدة اساسية لانطلاق تنظيم القاعدة ودعمه بالمجاهدين العرب وغيرهم الذين تقاطروا على افغانستان وانضموا للتنظيم خلال سنواته الاولى ..!!

الحرب الافغانية ضد السوفييت كانت بوتقة انصهار للمنادين والداعيين للجهاد واقامة الخلافة ومحاربة الصليبيين من مختلف اقطار الارض , والذين اتاح لهم مكتب الخدمات في " بيشاور 1984 "  فرصة التقارب والحوار والامتزاج لانتاج ايدلوجيا مشروعهم العالمي .. وكانت لهم فرصة في استقطاب رؤوس الاموال العربية وكذا النخب الملاصقة لهم بعدما تصدر الشيخ " عبدالله عزام " المشهد وتواصل مع الداعمين له , وابلغ  الدعاة أنه " لا قيمة لكم تحت الشمس إلا إذا امتشقتم أسلحتكم وأبدتم خضراء الطواغيت والكفار والظالمين " ..  وأكد بفتواه موضحاً  «   الناس كلهم آثمون بسبب ترك الجهاد سواء كان في فلسطين أو أفغانستان أو أية بقعة من بقاع الأرض ديست من الكفار ودنست بأرجاسهم» ..  ورفع العذر عن الجميع وبين بأن التكليف على جميع المسلمين فقال  «لا إذن لأحد اليوم في القتال والنفير في سبيل الله، لا إذن لوالد على ولده، ولا زوج على زوجته، ولا دائن على مدينه، ولا لشيخ على تلميذه، ولا لأمير على مأموره».. واطلق صيحة الجهاد باسم الاسلام ضد امريكا والغرب واليهود وكل من خالف الاسلام بالارض ..!!

افكار " عبدالله عزام " دعمتها الاموال وتجندت لها امكانيات الدول الراعية للجهاد ضد السوفييت .. واستقطبت لها الكثيرين .. وعندما خرج السوفييت افلت تلك الافكار من عقالها وتحولت الي " قوة كوابيس " تهدد العالم وتقحمه في ملاحم حروب طائفية ودينية " كهوفية "  المنشأ والهدف ..!!

تصدعات الرؤى وخلافات التوجه التي نشأت بين " عبدالله عزام " وزعيم " منظمة الجهاد الاسلامي "  أيمن الظواهري " وزعيم تنظيم القاعدة " أسامة بن لادن " حول توجيه الجهاد الي فلسطين " رأي عزام " أو توجيه الجهاد للحكومات العربية والولايات المتحدة " رأي الظواهري وبن لادن " .. احدث فجوة أساسية في صفوف " الافغان العرب " ما كان لها أن تنتهي لولا حادثة اغتيال " عبدالله عزام " " 1989 " واجتماع " الافغان العرب " تحت الراية السوداء التي يرفعها تنظيم القاعدة ومبايعتهم  الشيخ " أسامة بن لادن " على الولاء والطاعة متوجهين الي مرحلة جهادية جديدة وجهتها الولايات المتحدة الامريكية الشيطان الاكبر ..!!

" حكم قتل الأمريكيين وحلفائهم مدنيين وعسكريين، فرض عين على كل مسلم في كل بلد متى تيسر له ذلك، حتى يتحرر المسجد الأقصى والمسجد الحرام من قبضتهم . وحتى تخرج جيوشهم من كل أرض الإسلام، مسلولة الحد كسيرة الجناح. عاجزة عن تهديد أي مسلم" .. فتوى  اطلقها " أسامة بن لادن وأيمن الظواهري " في أوائل " 1998 " جاءت كاعلان حرب مقدسة على امريكا وحلفائها , ومبدأ أصيل وتجلي صريح لظاهرة " أفغنة الاسلام " التي اصبحت هوية الاسلام الاكثر رواجاً وتداولاً في المجتمعات الغير اسلامية ومؤخراً بالمجتمعات الاسلامية ..!!

امريكا خاضت حرباً بالوكالة ضد السوفييت  في افغانستان .. واستغلت المجاهدين " الافغان" والمجاهدين " الافغان العرب " في دحر السوفييت وايقاع الهزيمة بهم , لتكون حرب افغانستان ضربة أمريكية أولى تحت حزام العملاق السوفييتي الاجدب , و فاتحة ضربات خاطفة سرعان ما قضت على الوجود السوفييتي وحولته الي رماد ذكرى .. ولكنها " امريكا " تورطت في دعم كيمياء فكرية خطرة وخصبت أنوية " عقائدية " منشطرة في أوساط تحوطها المعاناة وتسودها الديكتاتورية وسياسات العنف والقهر وحياة اجتماعية تسيجها الطقوس ويحتلها الفقر عنوة .. !

ربما كانت لامريكا رغبة في القضاء على المجاهدين الافغان " العرب وسواهم " , وقد يكون " عبدالله عزام " قد احس بهذا وتوقعه .. لذا اطلق فتواه وأوصى بالجهاد وطالب اطفال المسلمين بأن يـــ " تربوا على نغمات القذائف ودوي المدافع وأزيز الطائرات وهدير الدبابات .." .. وكأنه قد خطط لمستقبل بعيد وبذر بذوره .. وكان على خلفائه " الظواهري وبن لادن " أن يشرعوا يتجسيده .. بعدما اعلنوا عداء امريكا وتجهزوا لحربها ..!

كانت هجمات " 11 سبتمبر 2001 " واسقاط برج مركز التجارة الدولية بــ " منهاتن / نيويورك " ومقر البتاجون الامريكي بداية فعلية للحرب على امريكا .. وسرعان ما استجابة امريكا وحلفاؤها لهذا ..  وغزت افغانستان بـــ" اكتوبر 2001 " .. وبحجة القبض على " اسامة بن لادن " والقضاء على تنظيم القاعدة الذي اعلن مسئوليته عن هجمات " سبتمبر " واقصاء حركة طالبان من حكم افغانستان .. وتورط الافغان في دفع ثمن الحرب الشرسة التي دارت على اراضيهم وربت اطفالهم على نغمات القذائف كما أراد لهم المجاهدين وساقت الاقدار ..!!

تم عزل تنظيم القاعدة في اقصى الارض .. وتحقق لامريكا هدف القضاء على زعيمه " أسامة بن لادن " بعدما رصده الوشاة وداهمه المسلحون غيلة في " مايو 2011 " بابيت آباد بباكستان وقتلوه .. ولكن ..!!

لم يتحقق لأمريكا طوي صفحة القاعدة كما اعتقدت بموت " بن لادن " وألقائه من على متن حاملة الطائرات الامريكية " كارل فينسون " في لجة البحر .. بل انشطر هذا التنظيم وتحولت حادثة اغتيال " بن لادن " إلي دافع وحجة للمجاهدين لتكثيف عملياتهم الجهادية في مختلف الاقطار ضد الامريكان وحلفاؤهم حسب فتوى " 1998 " .. وتباينت رؤى خلفاء " بن لادن " وحدث الانشطار القطري لتنظيم القاعدة وتكاثرت الرايات السود وخفقت باقطار عديدة على رؤوس مجاهدي تنظيمات جديدة تجمعها فتوى الجهاد وعداء امريكا ..!!

 

ظاهرة " افغنة الاسلام " احدثت ارتكاسة فكرية عقائدية في المجتمعات الاسلامية التي خاضت تجربة " الشيوعية " وتجربة " الرأسمالية " على استحياء ..  والتي ولجت مرحلة التغيير " الربيع العربي " مكرهة ,  وتنفست هواء  فضاء جديد , وقفزت في طقس سياسي مختلف  , أوجد فرص مناسبة لبروز  سطوة التنظيمات الاسلامية المتشددة , وتصدرها للمشهد بعد دفن الديكتاتوريات تحت الرماد , والانجراف في تجربة اقتراف الحرية وتناولها ثمارها  بالاظافر والاسنان  ..!!

خلفاء " بن لادن " يشكلون مرحلة انتقال في فهم الاسلام , والعنف يعد وسيلتهم الانجع في تحقيق اهدافهم وترسيم رؤاهم .. ووسيلة تعبير موازية للعنف الذي اقترفته امريكا في افغانستان والعراق .. وغياب المرجعيات الدينية الموثوقة في الاقطار العربية افسح المجال للمتطرفين والمتشددين لتمثيل الاسلام واحتكاره .. وهي مرحلة صراع ايدلوجيات وقيم شرسة تحدث داخل امة الاسلام .. وتسعي الي تدجين الادمغة واستعباد الاجيال لخدمة التطرف وامتهانه ..!

قد يكون " الارهاب " مصطلح فراغي مموه وغير دقيق لوصف حالة الصراع التي يخوضها الاسلام ضد الاسلام وضد اعدائه في آن واحد .. ولعل المعركة الاسلامية الاكثر ضراوة هي معركة الاسلام الداخلية بين معتنقيه المشبعين بالسلف من جهة  والراغبين في عصرنته من جهة اخرى  .. وفئات كثيرة من الجموع التائهة التي تحاول العبور الي وعي متماسك ومقدس وتتجهز لقيامتها  .. !

الاستقرار سيتأخر كثيراً إذا لم يفق العرب والمسلمون من هذيانهم , ويلجأوا إلي وعي مغاير يبحث في معضلات الهوية , ويركز على تدارك فشل مشاريع التنمية الوطنية ووقف حالات التخبط السياسي المضيع للهوية ..  وعدم تعاطي فوبيا الرايات السود وحملتها بالاسلوب الانجلوساكسوني المريب ...!!!

 

باحث وكاتب ليبي 

الاراء المنشورة ملزمة للكاتب و  لا تعبر عن سياية البوابة