ملفات حارقة تلك التي يتعيّن على الباجي قايد السبسي مرشّح حزب “نداء تونس″ الفائز بالجولة الثانية للانتخابات الرئاسية التي جرت، أمس الأحد، بكامل مناطق البلاد، إيجاد حلول جذرية لها، أهمّها النهوض بالقطاعات الاقتصادية، وتبديد شبح الإرهاب، واستعادة ثقة 44 % من التونسيين الذين قاطعوا صناديق الاقتراع.. فهل يصبح السبسي “مهندس الجمهورية الثانية” في تونس؟ تساؤل أجاب عنه محللون في إفادات تحليلية للأناضول.
مرشّح حزب “نداء تونس″ الفائز بالانتخابات التشريعية التي جرت بتونس أواخر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أطاح بخصمه الرئيس التونسي السابق المنصف المرزوقي، المترشّح بصفة مستقلّ، وذلك خلال الجولة الثانية والحاسمة للرئاسية التونسية التي أعلن عن نتائجها الرسمية، أمس الاثنين. السبسي حصد أكثر من 1.7 مليون صوت لصالحه، مقابل 1.3 مليون صوت لخصمه.
وتضع هذه النتائج الممتمخّضة عن أوّل انتخابات رئاسية حرّة بالاقتراع المباشر تشهدها البلاد حدّا لفترة انتقالية امتدّت لأكثر من 3 سنوات، عرفت خلالها البلاد تقلّبات واضطرابات على كافة الأصعدة، إثر الحراك الشعبي أو الثورة التي هزّت أوصال البلاد في يناير/ كانون الأول 2011، ورسمت جدارا فاصلا بين حقبة حكم الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة (1957- 1987) والرئيس المخلوع زين العابدين بن علي (1987- 2011)، وهي حقبة - اضحت تعرف الآن بـ”الجمهورية الأولى” كونها اتّسمت بغياب التعدّدية السياسية الحقيقية وبهيمنة الحزب الواحد على دواليب الدولة، وهو ما لم يعد قائما بعد الثورة.
تسونامي من الأحداث غيّرت إحداثيات المشهد السياسي التونسي بنسبة مائة وثمانين درجة.. من الأحادية الحزبية إلى التعدّدية ومن الدكتاتورية إلى الديمقراطية.. خطى حثيثة تخطوها تونس نحو بناء الدولة الجديدة، بناء تونس الديمقراطية، غير أنّ الطريق لمن سيتكفّل بهذه المهمّة الشائكة لن تكون محفوفة بالورود، وإنّما تنتصب على جوانبها أشواك وتحدّيات بالجملة تجعل مهمّة الزعيم الجديد غير يسيرة بالمرّة.
فبالنسبة للسبسي، وإلى جانب الملفات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، يجد نفسه أمام إلزامية العمل على جوانب أخرى قد لا يكون لها تشكّل مادي واضح، إلاّ أنّها محورية ومصيرية بالنسبة لمن يتأهّب لدخول قصر قرطاج.. أوّلها إعادة الاعتبار أو الهيبة لمنصب رئيس الجمهورية، ومحاولة الحصول على ثقة جميع التونسيين وخصوصا الشباب منهم.. فهذه الأهداف تعدّ من الأولويات في السياق الحارق الذي تعيشه البلاد.
الباحث بمعهد البحوث حول المغرب العربي المعاصر “جيروم هيرتو” عقّب عن الجزئية الأخيرة، قائلا “على الباجي قايد السبسي الإيفاء بوعوده واتخاذ القرارات المناسبة لطمأنة الشعب التونسي”.
وأضاف، في تصريح للأناضول “ما كشفته انتخابات (يوم أوّل أمس) الأحد هو أنّ الجزء الأوّل من التونسيين يشكّلون الفئة المقاطعة للتصويت (44 % من التونسيين لم يدلوا بأصواتهم في الدور الثاني للرئاسة). فالتعبئة لم تكن بالأهمّية التي تدفع بالجميع نحو صناديق الاقتراع، والكثير من التونسيين اختاروا “الأقلّ سوءا”، موضحا أنّ “الشباب كان أبرز الغائبين عن هذه الانتخابات، ولذلك، فإنّ السبسي لا يسعه إدّعاء الاستناد إلى فوز ساحق أو دعم شعبي مضمون.. بل عليه العمل بجدّ من أجل إقناع التونسيين، خصوصا فئة الشباب المحبط”.
وكانت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات أعلنت أنّ نسبة المشاركة في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية بلغت 56? (مقابل 64? في الجولة الأولى) داخل البلاد، في حين تراوح معدل المشاركة في الدوائر الانتخابية بالخارج بين 25? و 26?.
ومن هذا المنطلق، فإنّ مهمة السبسي لا تبدو يسيرة على الأقلّ فيما يتعلّق بإقناع الشباب التونسي، وخصوصا جميع أولئك الذين يخشون العودة التدريجية للنظام السابق والدكتاتورية، وفقا للعديد من المراقبين للشأن التونسي.
والحصول على ثقة الشعب التونسي تمرّ وجوبا عبر بوابة إنعاش الاقتصاد الذي جنحت مؤشراته نحو التراجع، بحسب المختصّ التونسي في الشؤون الاقتصادية فتحي النوري، فـ “أوّل انجاز ينتظره التونسيون هو النهوض باقتصاد ناهزت فيه معدّلات التضخم الـ 5.3 % وبلغت فيه البطالة الـ 15.2 %” بحسب بيانات شبه رسمية.
وأوضح النوري، في تصريح للأناضول، أنّ “السبسي يريد إرساء دولة قوية من الناحية الاقتصادية، ولذلك يتحتّم عليه أن يكون خياره الحكومي استراتيجيا بأتم ما تعنيه الكلمة من معنى.. عليه أن يختار وزراءه الذين سحصلون على الحقائب الوزارية الهامة بدقّة متناهية، والتفكير في تحالف لمصلحة البلاد”.
وعن سبل تحقيق هذه الأهداف، تساءل المحلّل الاقتصادي التونسي قائلا “هل سيقوم بدعوة المسؤولين القدامى الذين عملوا مع بن علي؟ أم أنّه سيستدعي تكنوقراط (كوادر مستقلة) من الخارج؟ أم هل سيمنح ثقته للشباب التونسي؟ الإجابة مرتبطة –بلا شكّ- برؤيته للتركيبة المستقبلية للحكومة التونسية”.
وأوضح النوري أنّ حزب الرئيس التونسي الجديد كان وعد بتخصيص 10 مليار دينار (5.5 مليار دولار) سنويا لبعث المشاريع الحكومية، إلى جانب تشكيل صنادق استثمار على مستوى المحافظات، بما يمكّن من تمويل البرامج الطموحة في مجال البنية التحتية، اعتمادا على تدفّق رؤس الأموال الأجنبية على البلاد.
“استقطاب رؤوس الأموال الأجنبية” يتابع الخبير الاقتصادي، “إذا ما تحقّق، فإنّ تونس ستشهد نفسا اقتصاديا جديدا وستتمكّن من النهوض بمجمل قطاعاتها”، لافتا إلى أنّ الجانب الذي لا يزال يطبق بثقله على التونسيين هو الأمن.. فمخاوفهم المنبثقة عن تواتر الاغتيالات (المعارضين شكري بلعيد ومحمد البراهمي) وسلسلة الأحداث الإرهابية التي هزّت مناطق مختلفة من البلاد، لا تزال سارية، واحتواء هذه المخاوف لن يكون إلا عبر تجسيد وعود السبسي الذي أكّد بأنّ الملف الأمني سيكون ضمن أولوياته الملحة، والجميع في انتظار مروره من الوعود إلى التنفيذ.
لائحة طويلة من المهام في انتظار “الرئيس″ السبسي وقد لا تنتهي أبدا.. عليه تجسيد وعود كثيرة بينها وعده بعدم احتكار الحكم، خصوصا وأنّ حزبه هو الفائز أيضا بالانتخابات التشريعية، وهو، تبعا لذلك، صاحب الأغلبية البرلمانية.. عليه تفعيل ما صرّح به، مساء أمس الأول الأحد، أمام عدد من أنصاره، حين قال “سنقوم بالعمل مع دون إقصاء أيّ كان”.. وعود تنتظر القفز من حيّزها النظري لتنزل على أرضية منزلقة قد لا تتيح الكثير من الامتيازات لمن يودّ اختبار منعطفاتها، أو لمن سيحمل لقب “مهندس الجمهورية الثانية” في تونس.