ما يشهده غرب ليبيا من تحولات في الميدان لصالح الأتراك وحلفائهم ، قد يفلح إلا في الإسراع بتقسيم البلاد ، ولكن بعد أن تعرف المنطقة الغربية حربا أهلية قد لا تنتهي بسهولة ، فالموضوع لا يتعلق كما يعتقد البعض ببسط نفوذ ميلشيات الوفاق على إقليم طرابلس الذي تبلغ مساحته 363 آلف كلم مربع ، بدعم مباشر من النظام التركي ومرتزقته ، أو بفرض مشروع أردوغان على الليبيين لتكون بلادهم منطلقا لأطماعه التوسعية التي قال أنها تمتد من شمال أفريقيا الى دول البلقان ووسط آسيا.

على الذين يعتبرون أن الجيش الوطني الليبي قادم من شرق البلاد لغزو غربها ، أن يتحلوا بواقعية أكثر ، فحكومة الوفاق ليست هي المشكلة الأولى ، وإنما السبب الرئيس للأزمة أنها تخضع لميلشيات خارجة عن القانون ولقوى الإسلام السياسي الساعية التي تعتقد أنها ستضع يدها على مفاصل الدولة الليبية رغم فقدانها الشرعية الشعبية ، وأنها تستفيد من الفوضى والتحالفات الإقليمية والدولية والمساومات على الثروة  والتضليل الإعلامي لتحقيق أهدافها ، والتي إستفادت من بعض النزعات الجهوية والعرقية الشوفينية ومن تحالف الخطاب الديني مع مصالح التجار ورجال الأعمال الفاسدين ، ثم من إستدعاء الدخيل التركي والمرتزق السوري والارهابي الباحث عن مأوى ، للسيطرة على جزء من الأرض

هل يعني ذلك أنها ستحقق أهدافها ؟ الجواب لا ، فالمشهد الليبي يختزن  الكثير من الحسابات الأخرى ، منها إقليم طرابلس متعدد الثقافات ، وأغلبية سكانه من القبائل البدوية التي لها ثأرات مع الإسلام السياسي ومع الميلشيات الخارجة عن القانون تعود الى 2011 وما بعده ، والتي تعرض الآلاف من أبنائها للقتل أو الإخفاء القسري أو الإعتقال أو التهجير ، ولها اليوم آلاف العسكريين في صفوف الجيش والقوى المساندة ، وهي لن تقبل أن تكون تحت سلطة مستعمر تركي أو إرهابي إخواني أو جهوي شوفيني من مصراتة يفخر بولائه لأردوغان.

هذا الواقع يخفي بدوره حقيقة أخرى ، وهي أن جانبا من تلك القبائل لا يزال غير معترف بالعملية السياسية لما بعد 2011 ، ولا بمخرجات ورموز الواقع الجديد ، وهو مناهض لسلطات طرابلس وقيادة الجيش والإخوان والميلشيات وجماعات الثوار والدتخل الخارجي بصفة عامة ، ويمكن أن نلاحظ ذلك بوضوح خاصة في بني وليد مركز قبائل ورفلة ، كما أن هناك قبائل منقسمة على ذاتها بين قوى إجتماعية داعمة للجيش ومجالس عسكرية ثورية مساندة لحكومة فتئز السراج ومرحبة بالغزاة الأتراك كما في الزنتان مثلا ، التي لا يزال أبناؤها يقاتلون في الجانبين : البعض مع الجيش والبعض الأخر مع الميلشيات.

علينا أن ندرك كذلك أن أكثر من ثلثي سكان العاصمة هم من أبناء القبائل ، وخاصة تلك الداعمة للجيش كترهونة  التي ينتمي إليها وحدها ثلث سكان طرابلس تقريبا ، وهي اليوم الهدف الرئيس للميلشيات والمرتزقة بإعتبارها الحاضنة الأساسية للقوات المسلحة ،

ماذا لو غادر الجيش نحو المنطقتين الشرقية والجنوبية وتخلى عن المنطقة الغربية ؟ الثابت والمؤكد أن حربا أهلية ستشتعل في إقليم طرابلس ، فلا ترهونة ذات القوة العسرية الكبيرة ستسمع بغزوها من قبل الميلشيات ، ولا الرجبان والزنتان العربيتان سيقبلان بإحتلالهما من قبل مسلحي الأمازيغ في الجبل الغربي ، ولا بني وليد ستخضع لهجوم جديد من ميلشيات مصراتة ، ولا عسكريو الغرب الليبي سيغادرون نحو برقة أو فزان ويتخلون عن دورهم في حماية قبائلهم وأهاليهم ،

إن ما حدث خلال الأيام الماضية من إنسحاب الجيش الليبي بكامل عتاده من قاعدة الوطية ، وبقدر ما أعاد خلط الأوراق ، إلا أنه كان قرارا منتظرا لأسباب عدة ، بعضها لم يتضح إلا بعد أن دخلت جماعات الإرهابيين والمرتزقة الى القاعدة الإثنين الماضي ، ومنها أن إخراج قوات الجيش من تلك المنطقة كان هدفا لدول عدة ، وكان جزءا من مشروع عسكري وإقتصادي وإيديولوجي رسياسي .

لنسأل أولا : هل كان يمكن لأية قوة عسكرية منتشرة في مساحة من الأرض  منبسطة ومفتوحة على العراء أن  تتصدى للقصف المتواصل على مدار الساعة من قبل الطيران المسيّر ثم بواسطة صواريخ التوماهوك المنطلقة من بارجة موجودة في عرض البحر ؟ الجواب حتما سيكون لا ، خصوصا عندما تفتقد تلك القوة الى منظومة دفاع جوي متطورة كالتي تسارع الدول القوية العسكرية بما فيها تركيا لإستيرادها من الدول الكبرى ،

عندما بدأت مهمة اريني الأوروبية فعليا قبل أكثر من أسبوع في تنفيذ دورياتها البحرية والجوية لتنفيذ القرار الأممي بمنع توريد السلاح الى ليبيا ، كانت البوارج التركية تمخر عباب البحر قبالة الساحل الغربي الليبي وتطلق الطائرات المسيرة وصواريخ توماهوك لقصف مواقع تمركزات الجيش حول قاعدة الوطية ، أمام أعين الرقيب الإيطالي المشرف على العملية والذي صارع طويلا من أجل إستبعاد اليونان عن تلك المهمة على الأقل خلال الأشهر الستة القادمة.

الموقف الإيطالي نحو الملف الليبي عرف في العموم إضطرابا كبيرا خلال السنوات والأشهر الماضية، حيث إنقسمت مؤسسات الدولة في تقييمها للوضع ، ما جعلها تركن الى الخيار الإنتهازي كالذي حدث في ما يتعلق بقاعدة الوطية ، حيث كانت داعما للتدخل التركي ، وهو ما فسرته مصادر عدة ، بضغوط شركة إيني عملاق النفط والغاز ، التي توجد أغلب إستثماراتها في غرب البلاد ، وكذلك لتنافس روما الواضع مع باريس حول المصالح في ليبيا ، وللدور الذي تلعبه قطر من خلال ديبلوماسية الصفقات في جر الإيطاليين الى حلفها مع تركيا والإخوان.

ولعل ما  ورد على لسان عضو المجلس الرئاسي  أحمد حمزة المهدي من شكر لإيطاليا على دعمها لميلشيات الوفاق خلال إستقباله الإثنين  السفير الايطالي جوزيبي بوتشيني  الذي زاره لتقديم التهنئة ب«تحرير قاعدة الوطية العسكرية » وكذلك ما ورد على لسان وزير الخارجية الإيطالي أثناء إتصاله الثلاثاء بفائز السراج ، خير دليل على ءن إيطاليا لم تكن بعيدة عن الدور التركي ، وإنما شريكة فيه ، وبقوة.

الأمر ذاته ينطبق على الموقف التونسي الذي سبق أن أكتنفه الكثير من الغموض ، لكن تهاني رئيس البرلمان ورئيس حركة النهضة  راشد الغنوشي لفائز السراج بالسيطرة على القاعدة ، كشفت عن إبتهاج إسلاميي تونس بإستبعاد الجيش الليبي عن الحدود المشتركة بين البلدين ، وأوحىت بدور ما لعبته تونس في تيسير العملية ، خصوصا في ظل التحركات المريبة سواء كانت التركية أو القطرية للزج بالجانب التونسي في المستنقع الليبي كداعم لجماعات المرتزقة والإرهابيين العاملين لتنفيذ أجندات الإسلام السياسي.

المواجهة لن تقف عند الوطية ولا أية منطقة أخرى ، ورهان البعض  في المنطقة الغربية على التدخل التركي  والقطري والدعم الإيطالي أو التونسي وآلاف المرتزقة السوريين لن يحل المشكلة التي تبدو تعقيدا ، فالمجتمع الليبي في غالبيته الساحقة غير قابل للإخوان ، ولن يسمح لهم بالسيطرة على الدولة ومقدراتها ، ولا لهيمنة  الميلشيات ، وينظر لتركيا على أنها قوة إحتلال ، ولقطر على أنه سبب أساسي في الخراب الذي حل ببلادهم ، ولإخوان تونس على أنهم شركاء في العدوان ، ولحكومة الوفاق على أنها حكومة عميلة تعبث بمصالح شعبها.