في ليبيا، فجأة ودون مقدمات تخلت الدول الغربية عن متابعة حروبها ضد الشعبي الليبي، لتدعم ما أسمته الحل السياسي الذي تحاول إنتاجه في ليبيا بما يخدم مصالحها الإستراتيجية. وصدق القذافي، حينما قال: "الدين الوحيد للغرب هو المال"، وكانت مناسبة هذا الكلام، عندما اتُهمت ليبيا بإسقاط طائرة ركاب أمريكية فوق "لوكربي"، والطريقة التي حلّت بها بعد نحو عشر سنوات. وليس مصادفة أن تحظى ليبيا والأوضاع فيها باهتمام مختلف الأطراف الإقليمية والدولية، بالنظر إلى أهميتها الاستراتيجية وسواحلها الطويلة على البحر المتوسط، واتساع أراضيها، وضخامة مواردها من النفط والغاز، وقلة سكانها (حوالي ستة ملايين نسمة)، وما تمثله من جسر بري سهل بين البحر المتوسط والعمق الأفريقي ومن ثم تحولها إلى نافذة للهجرة غير المشروعة إلى أوروبا، وإلى ثغرة تمرح فيها تنظيمات إرهابية عديدة، ولذا فقد التقت مختلف الأطراف الإقليمية والدولية عند نقطة العمل من أجل إعادة الاستقرار إلى الأراضي الليبية، ليس فقط خوفا من مزيد من الانفلات الأمني فيها، ولكن أيضا رغبة في الحفاظ على مصالحها، بخاصة بعد يقين كل الأطراف أن استمرار المواجهات المسلحة والحرب بالوكالة يهدد المصالح ويستنزف الإمكانيات، ومما له أهمية كبيرة أن مجلس الأمن الدولي تبنى يوم الجمعة 16 أبريل 2021 قرارا بالإجماع، تزامن مع اقتراح "جوتيريش" الأمين العام للأمم المتحدة بإنشاء وحدة مراقبة لوقف إطلاق النار في ليبيا ضمن البعثة الأممية في ليبيا والتي يترأسها "يان ابيش".

لقد حط رحال الأحداث في الأيام الأخيرة عند "المراقبين الدوليين"، وتتمثل أهمية قرار مجلس الأمن ليس فقط في أنه صدر بإجماع الدول الأعضاء في المجلس، بما يعنيه ذلك من مساندة دولية واضحة لما يتضمنه، ولكن أيضا في أن القرار يمثل خطة عمل يمكنها، إذا تم تنفيذها، أن تضع ليبيا على طريق الاستقرار وبدعم إقليمي ودولي تحتاج إليه بالفعل. فقد نص القرار على "إنشاء وحدة مراقبة لوقف إطلاق النار تشمل 60 مراقبا في أقصى حد، وتكون جزءاً من بعثة الدعم الأممية في ليبيا" وتكون هذه الوحدة "منفصلة عن آلية لمراقبة الاتفاق ينكب طرفا النزاع على تشكيلها في مدينة سرت"، حيث تقوم مجموعة 5+5 العسكرية بهذا الجهد، وبينما رحب قرار مجلس الأمن باتفاق وقف إطلاق النار الموقع في 23 أكتوبر الماضي ودعا إلى التنفيذ الكامل له من جانب جميع الأطراف الليبية، وضرورة احترامه من جانب جميع الدول الأعضاء، وبتشكيل حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة، فإنه شدد كذلك على "الانسحاب الفوري لجميع القوات الأجنبية والمرتزقة من ليبيا"، وعلى "ضرورة نزع السلاح وإعادة إدماج الجماعات المسلحة وجميع الفاعلين المسلحين خارج إطار الدولة وإصلاح القطاع الأمني وإنشاء هيكل دفاعي شامل ومسؤول في ليبيا"، مع التحضير لضمان أن تكون "الانتخابات الرئاسية والبرلمانية حرة ونزيهة وشاملة". 

وقد أعلنت الحكومة الليبية المؤقتة، ترحيبها بالقرار الصادر عن مجلس الأمن الدولي والقاضي بنشر "مراقبين دوليين"، وقالت الحكومة الليبية في بيان، إنها مستعدة للمساعدة وتقديم التسهيلات للمراقبين الدوليين لممارسة عملهم بالإشراف على عملية وقف إطلاق النار، وأضافت الحكومة الليبية أنها تعتزم توفير جميع القدرات المالية واللوجستية لسلطة الانتخابات في البلاد لإجراء تصويت نزيه وشفاف في 24 ديسمبر المقبل.

ظاهرياً، لا ندري إذا كان هذا الحدث يرقى إلى مستوى وصفه بالتطور أو بتحقيق خرق ما، حتى لو كان أخذ حيزاً مهماً من المفاوضات الجارية وحظي في النهاية بموافقة الأطراف الليبية التي رفضت نشر قوات دولية في ليبيا. عملياً، وكما عودتنا أحداث العقود الماضية، فإنه لا أمر يتم اتخاذه على المستوى الأممي/ الدولي، اعتباطياً أو من دون هدف، إذ دائماً ما "يُبنى على الشيء مقتضاه" وربما يتحول "المراقبون" إلى "قوات" في أي وقت في حال تم الدفع بهذا الاتجاه بذريعة "المصلحة الليبية وهدف التوصل على حل". والسؤال: لماذا إذاً إرسال بعثة مراقبين دوليين إلى ليبيا؟

في الجواب السريع على هذا السؤال يقول مراقبون، إن اتفاق وقف إطلاق النار كان على وشك الانهيار بفعل التطورات التي يشهدها الميدان، والتي كانت تُنبئ بعودة حامية للمعارك... وقد كشفت الأمم المتحدة في مطلع كانون الأول/ ديسمبر من العام الماضي الماضي، عن وجود نحو عشرين ألفا من القوات الأجنبية والمرتزقة في ليبيا، كما أشارت إلى وجود عشر قواعد عسكرية في البلاد، تشغلها بشكل جزئي أو كلي قوات أجنبية ومرتزقة، وهذه القوات في غالبيتها عبارة عن مجاميع المرتزقة والجماعات المسلحة الموالية والتابعة لتركيا، والموزعة حول سرت وفيقاعدة الجفرة الجوية، وفي محيط العاصمة طرابلس وفي قاعدة الوطية العسكرية على الحدود التونسية.

وللأسف، فالنظام التركي لا يبالي بما يقرره المجتمع الدولي، ضارباً عرض الحائط بكل ما يقرره بشأن إنهاء الحرب في ليبيا. حيث زعم "ياسين أقطاي" مستشار رئيس النظام التركي رجب أردوغان، أن المجلس الرئاسي الجديد في ليبيا يدعم دور أنقرة في ليبيا، ولا يعارض التدخل العسكري التركي في البلاد. وأضاف أقطاي: الاتفاقيات التي عقدت بين نظامه وحكومة السراج "لن تتأثر بوجود المجلس الرئاسي الجديد، بل على العكس تدعم الدور التركي هناك" حسب زعمه. بدوره صرح المتحدث باسم رئاسة النظام التركي إبراهيم كالين، أن "الوجود العسكري التركي" في ليبيا سيظل قائماً طالما استمرت مذكرة التفاهم الموقعة مع السراج. وأضاف كالين: "لا يمكن لأي مفاوضات أو مسار سياسي أن ينجح في ليبيا من دون وجود تركيا". وهو ما صرح به قبل أن يشير إلى دور الشركات التركية في إعادة إعمار ليبيا مستقبلاً، عندما قال: "ليبيا بلد غني بثرواته النفطية وما يملكه من سواحل شاسعة على المتوسط، إلا أن الشعب لا يستفيد من هذه الثروات، وفي حال قامت تركيا بإدارة لتلك المصادر فستتحقق الرفاهية للشعب الليبي خلال فترة قصيرة".

وفي ذلك السياق، قال مدير إدارة التوجيه المعنوي بالقوات المسلحة الليبية اللواء خالد المحجوب: إن الجيش الوطني الليبي أبدى تعاوناً كبيراً مع كافة الأطراف لخروج البلاد من تلك المرحلة الصعبة. وأضاف المحجوب: القيادة العامة للجيش الوطني الليبي متمسكة بكل القرارات الدولية التي تطالب بخروج كافة المرتزقة والمسلحين الأجانب من البلاد، لضمان تحقيق الاستقرار أولاً، والحفاظ على التقدم في مسار العملية السياسية وتحقيق ديمقراطية حقيقية ثانياً. ويرى مراقبون أن هدف تركيا الأول هو نسف أي حوار سياسي بين الفرقاء الليبيين، وعرقلة جهود الأمم المتحدة والأسرة الدولية لإنهاء الحرب، وأن تركيا تدرك جيداً أن قوتها في الملف الليبي تأتي من التفكك الداخلي، لذلك كانت عبر الثلاثة أعوام الأخيرة تعمل على قطع أي اتصال بين الشرق والغرب، أو وقف أي تقدم من الشرق للجنوب. وبموجب اتفاق وقف إطلاق النار في ليبيا الذي وقع في 23 تشرين الأول الماضي، كان يجب أن يغادر المرتزقة الأجانب ليبيا خلال الأشهر الثلاثة التي تلت توقيع الاتفاق، أي بحلول 23 كانون الثاني الماضي، وهو ما لم يحدث رغم انتهاء تلك المدة، بينما حدث العكس في ظل استمرار أردوغان بإرسال المرتزقة الأجانب لمصراتة وطرابلس وغيرها من مدن الغرب الليبي، وحشد هؤلاء الإرهابيين على خط تماس سرت - الجفرة.

تركيا تضرب عرض الحائط بكل القرارات الدولية والجهود الإقليمية التي تهدف إلى إنهاء الحرب في ليبيا وإخراج المرتزقة الأجانب منها، وفي نفس الوقت لا يزال النظام التركي مستمراً في تثبيت حضوره بغرب ليبيا عبر المرتزقة، لفرض أمر واقع على المجتمع الدولي والشعب الليبي نفسه، الذي بات يدرك أن المشكلة لم تعد في الداخل الليبي، ولكن في التدخل التركي السافر في ليبيا. وفي ظل أن تركيا - حتى الآن - لم يردعها من التوسع العدواني في ليبيا لا الأمم المتحدة ولا الاجتماعات الدولية التي عُقدت وتُعقد وتدعوها لسحب قواتها وميليشياتها، ولا دول الاتحاد الأوروبي التي عمدت طيلة الفترة الماضية إلى تصعيد لهجتها ضد تركيا إلى أقصى حد قبل أن تعود للتهدئة.

إذن وأمام هكذا أوضاع، نتساءل: ما فائدة وجود بعثة دولية مدنية منزوعة السلاح، أي منزوعة الصلاحيات ولا قرار لها على الأرض... وفي ظل أن الميدان العسكري في ليبيا واضح جداً... الأصح هنا أو التوصيف الدقيق، هو أنه طالما لتركيا وكيل على الأرض، فهي ستستمر في مناوراتها وعدوانها مستقوية بالمقاتلين والمرتزقة وأمراء الحرب وتنظيم الأخوان، هذا الأخير يعتبر تواجد الأتراك في بلد عمر المختار، هو الضمانة لبقاءه في السلطة وتمدده في المناطق الليبية، ودون ذلك يمثل نهاية للتنظيم وللمشروع الأخواني بليبيا والدول المجاورة. 

إن تركيا تريد أن تبقى لاعباً أساسياً في الساحة الليبية وعينها على ثروات وموارد هذا البلد ومشاريعه التنموية، وأذرعها في هذا مجاميع المرتزقة والجماعات المسلحة الموالية لها، فضلاً عن شراء الولاء من عدد من السياسيين الليبيين الذين هم في الواجهة. وعليه يمكن القول إن فرص خروج المرتزقة والقوات الأجنبية من ليبيا لا تبدو متساوية شرق وغرب ليبيا لأن بعضها يتستر بغطاء "اتفاقيات عسكرية بين حكومة السراج وأردوغان" ما يعني أنه ليس هناك نيات تركية جادة للخروج من ليبيا.

والأكيد، أن قرار إخراج المرتزقة ليس بيد حكومة الدبيبة، بل بيد القوى الأجنبية المتنافسة في ليبيا، وأن المرتزقة لن يخرجوا، حتى تضمن الدول التي جندتهم مصالحها في المرحلة الانتقالية الجديدة المقبلة. وهناك شكوك يُثيرها مراقبون والليبيون أنفسهم حيال عدم فعل شيء إزاء الدور التركي العدواني في ليبيا كون هذا الدور يخدم أكثر من طرف دولي، إذ إن استمرار التصعيد والتحشيد العسكري التركي يكاد يكون هو المطلوب لدفع ليبيا باتجاهات محددة تُبقيها في بؤرة الفوضى والعنف، إي عدم عودتها كدولة لها دور ومكانة في محيطها وعلى المستوى الدولي.

خلاصة الكلام: تبقى مسألة الانتخابات المقررة نهاية هذا العام وتحديداً في 24 كانون الأول المقبل... صحيح أن الوقت ما زال طويلاً إلا أن المحللين يربطونها مع بعثة المراقبين الدوليين، باعتبار أن هذه الانتخابات يستحيل إجراؤها دون خروج والمرتزقة والميليشيات وأمراء الحرب! والمؤكد أنّ مرتزقة أردوغان يشكلون في الواقع عقبة كأداء في وجه أي جهود للمصالحة الوطنية وتوحيد ليبيا، حيث يرى مراقبون أنه ليس من المتوقع أن يتخلى أردوغان عن مرتزقته والجماعات المسلحة الموالية له تحت أي ظرف من الظروف. هذه ليست نظرة تشاؤمية بقدر ما هي قراءة مسبقة جداً لتطورات الأوضاع في ليبيا مع حكومة الوحدة الوطنية، والتي لن تشهد أي اتفاق في ظل الشذ والجذب، بل إن الوضع متجه بالبلاد إلى مزيد من التعقيد... عندها لا بد من تحويل المراقبين الدوليين/المدنيين إلى قوات عسكرية... ويبدو أن هذا هو المطلوب، وبعدها حديث آخر.


كاتب صحفي من المغرب.