إذا كانت حركة النهضة قد استغلت اتساع دائرة التآمر ضد الدولة الليبية، لإخفاء دورها الإجرامي في مساندة الإرهابيين الذين قاتلوا الجيش الليبي، فإن دورها في مساندة إرهابيي أردوغان الذين أرسلهم من سورية لتحقيق أطماعه الاقتصادية وأجندته العثمانية في ليبيا، دور معلن، مما لن يمر مرور الكرام هذه المرة. فالأزمة الليبية عرت ''الغنوشي''، وقد بدا واضحاً حجم الانقسام، الذي تسبب فيه رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي، بسبب نشاطاته الخارجية، من زيارته إلى أنقرة في كانون الثاني الماضي، ولقائه رئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان، وصولاً إلى موقفه الأخير الذي أعلن فيه دعم حكومة الوفاق الليبية.

ولسبب ما، قد يكون إما خطأ في التقدير أو تنفيذا لأوامر خارجية، أقدم زعيم ''النهضة'' ورئيس البرلمان التونسي مؤخرا على تهنئة السراج رئيس حكومة الوفاق في ليبيا بمناسبة استيلاء قواته من الإرهابيين المرتزقة الذين أرسلهم أردوغان من سورية لنجدة حليفه الليبي الإخواني، ومدهم بالسلاح المطلوب، على قاعدة الوطية الاستراتيجية. وبهذا أكد الغنوشي أن حزبه متورطة في الصراع الليبي، حيث تعمل على تنفيذ الأجندة التركية والقطرية في ليبيا، مما أثار موجة من الغضب الشعبي عليه في تونس، وأدى إلى مطالبة بعض الكتل البرلمانية بمساءلته وعزله من منصبه، وتقديم لائحة تدين التدخل العسكري الخارجي ولاسيما التركي والقطري في ليبيا، وترفض تشكيل قاعدة لوجستية داخل التراب التونسي لتسهيل ذلك التدخل.

وبالرغم من تمكن النهضة وحلفائها من إسقاط اللائحة إلا أن ذلك تم بصعوبة بالغة حيث تمكنت كتلة الحزب الدستوري الحر التي قدمتها من زيادة حجم المعارضة البرلمانية للنهضة، وحشرت الغنوشي رئيس البرلمان في زاوية ضيقة جعلته في منتهى الضعف والارتباك وعدم القدرة على مواجهة سيل الاتهامات التي صبت على رأسه. صحيح أن الرجل قد نجا بجلده هذه المرة، لكن آثار ما حدث جاءت في غير مصلحته، إذ غيرت خارطة التحالفات البرلمانية بما يضعف كتلة حركته، وأحدثت تصدعا في الائتلاف الحاكم حيث احتدم الخلاف بين أطرافه، ولا سيما بين النهضة وحركة الشعب الناصرية التي صوتت مع اللائحة…

لا بد من التذكير بأن وصول حركة النهضة إلى الحكم في تونس، واستمرارها فيه حتى الآن، رغم التراجع الواضح الذي شهدته شعبيتها في آخر انتخابات برلمانية، قد استند إلى أمرين، أولهما أن جزءا من الشعب التونسي قد توسم في أعضائها الخير، واعتقد أنهم يتمتعون بأخلاق عالية تحميهم من الفساد، وتُمكنهم من تصحيح أوضاع البلاد، وتحقيق العدالة الإجتماعية، وثانيهما أن الحركة أظهرت قدرا كبيرا من البراغماتية لإقناع المجتمع بأنها أبعد ما تكون عن محاولة تغيير نمط العيش والحكم المدنيين الذي ترسخ طوال مرحلة الحكم البورقيبي، ثم مرحلة حكم بن علي التي تلتها…

وكان سقوط إخوان مصر السريع درسا قاسيا حفظته الحركة جيدا، ولم يتردد زعيمها راشد الغنوشي وقتها في توجيه اللوم لهم لأنهم كانوا يريدون كل شيء دفعة واحدة، فخسروا كل شيء… ولعل الغنوشي أدرك مبكرا الكارثة التي وصل إليها التنظيم الأخواني في مصر، فاختار أن ''يشارك'' السلطة في تونس مع غيره بدلا من أن يخرج من المشهد تماما لو ترك عنان الأمور للجناح الداخلي من حركة النهضة الذي لا يختلف كثيرا عن رموز الإخوان في مصر من خيرت الشاطر ومحمود حسين وغيرهما. ويبدو أن ذلك لم يكن كافيا، بخاصة بعدما حدث في ليبيا من قيادة الإخوان لميليشيات إرهابية في انقلاب على شرعية الانتخابات التي أخرجتهم من السلطة حتى أعادتهم الأمم المتحدة (كأداة للغرب وتحديدا أميركا وبريطانيا) للسلطة عبر اتفاق الصخيرات.

لم تعترف ''النهضة'' بأنها فرع من التنظيم العالمي للإخوان المسلمين، وأصرت دائما على أنها حركة تونسية وطنية تؤمن بمدنية الدولة، ولا تسعى إلى الانفراد بالحكم، وتغلب مصلحة البلاد على مصلحتها الحزبية... وزاد استغناء قياداتها عن الشكل التقليدي للإخوان، ولا سيما اللحية، وارتداؤهم البدلة وربطة العنق في تقديم صورة عصرية لهم بعيدة كل البعد عن التشدد الإخواني النمطي مظهرا وجوهرا، إلى أن فضحهم فشل تجربتهم في الحكم، وانصرافهم إلى تنفيذ الأجندة الإخوانية، فضلا عن التحاقهم السريع بنادي الأثرياء الجدد والفاسدين، وكشف حقيقتهم التي حاولوا جاهدين إخفاءها بكل الوسائل، وهي أنهم فرع من التنظيم العالمي، ينفذون أجندته وأهدافه، ويتحالفون عقائديا مع الإرهاب التكفيري أيضا، بل ويعملون على حمايته وتشجيعه.

والحقيقة المؤكدة تاريخياً، أنّ ''الأخوان'' عبر تاريخهم ملتحقون بالسلطة، أيّ سلطة تقبل بهم، وترحّب بحضورهم، منذ أن أُنشئوا حتى الآن، وهذا استمرار لحالة تاريخيّة معبّر عنها ببعض رجالات الدين في تاريخنا، والذين كان كلّ همّهم أن يُفتوا بما يُرضي السلطان، وإنْ أغضب الله، وما أكثرهم. فالغنّوشي، كمثال، والذي كان يقدّم نفسه على أنه ابن العصر، وابن المواكبة، وأنّه يمثل الإسلام المعتدل، والمنفتح، وكانت بعض مقالاته ومقابلاته تلاقي قبولا من أفراد محسوبين على الفكر التقدّمي... هاهو كممارسة قد عرّاه الغليان في تونس، وفي الوطن العربي، وهذا كان ناتجاً عن جذر في العمق الفكري، وعن رؤيته لبعض مفاصل الحداثة، فهو يقول:

''إذا كان الطغاة في عهود التخلف يختفون وراء أصنام اللآّة، ومناة، وهُبل، وبعل، فإنّ الحريّة، والديمقراطية، والمساواة، والقوميّة، والإنسانية، والتقدميّة هي الأصنام الحديثة التي يُخفي الطغاة خلف بريق ألفاظها، ورنين جرْسها، ظلام أنفسهم، وبشاعة أعمالهم''. بصريح القول هذا تنكّر لمفاهيم الحرية، والديمقراطية، والمساواة، والقوميّة، والإنسانية، والتقدميّة.

والثابت عندنا، أنّ حزب ''النهضة'' ومن ورائه ''التنظيم الدولي للإخوان المسلمين'' جزء من توليفة تكفيرية، يدير بها الأمريكي والتركي لعبتهما في المنطقة، وهذا هو حال ''النهضة'' خلال سنوات طويلة سبقت التغيير في تونس عام 2011 وما اتضح أكثر خلال فترة حكمها بعد ذلك التاريخ. وهنا أستحضر ذاك السؤال المهمّ الذي سأله أحد المفكرين يوماً: مَنْ يحكم تركيا، أردوغان أم الغنوشي؟ في دلالة لا يرقى إليها الشك، في أن الامتداد الإخواني واحد في كلا البلدين، وأن الهدف الغربي واحد، عبر تبنّيه لأجندات داعمي الإخوان وزعمائهم... وبخاصة إذا عرفنا أن الغنوشي وأردوغان هما وجهان لعملة الإخوان المسلمين الواحدة في مشروع التمدد الأخواني، وصناعة الكراهية التي قدمت الأخونة بديلاً عن مشروعات العلمانية والتنوير والأفكار المعتدلة.

أعمال تركيا العدوانية في ليبيا والمباركة من قبل ''النهضة''، تعيدنا إلى دور (الإخوان المسلمين) في كل ما يجري في المنطقة من دمار، ورسالة راشد الغنوشي- زعيم ''إخوان'' تونس (النهضة) إلى اجتماع اسطنبول 2016 الذي عقد تحت عنوان (شكراً تركيا)، هذه الرسالة تكشف الكثير من الحقائق عن ''الإخوان''، وأهميتها أنها شهادة يقدمها شاهد من ''الإخوان''، بل زعيم من زعمائها. رسالة الغنوشي إلى اجتماع (التنظيم الدولي) هذا، تضمّنت وأوحت بالكثير من الحقائق عن بنية وطبيعة ''الإخوان''، منها حسب الغنوشي، أن ''الإخوان'' لا يعترفون بالوطنية، يلغون وطنية التونسي أو المصري أو السوري، ومن الحقائق التي أوردها الغنوشي، أن ''الإخوان'' يتحالفون مع منظمات إرهابية تدمر أوطانهم، كما كشف الغنوشي في رسالته، هوس ''الإخوان'' بالسلطة، وبأن هدفهم دائماً الوصول إلى كرسي الحكم، ولو عبر تدمير الأوطان.

وهكذا فإن رسالة الغنوشي، تعدّ شهادة واعترافاً من أحد زعماء ''الإخوان''، بشأن ما تقوم به هذه الجماعة من أعمال إرهابية في ليبيا، تدمر الوطن للوصول إلى كرسي الحكم، وفي إطار إيديولوجيتها تلغي الوطنية، وتعلي من الرابط الطائفي الملّي، وهذا الرابط، هو ما عبّرت عنه تركيا، بمفهوم عثماني (الميثاق الملّي) الذي يجعل ''الإخوان'' و''داعش'' و''النصرة'' وأمثالهم حلفاء لتركيا (إخوان) ويعملون تحت راية اللاوطنية لتدمير الأوطان.

مشكلة الإخوان المسلمين، أنه ليس لديهم أوطان ليدافعوا عنها، فالوطن لديهم في كل أنحاء ما يسمونه أرضاً إسلامية، وهو تعبير مطاط كذاب منافق، أنتج لديهم تنظيمات القتل والإجرام والإرهاب في كل المنطقة العربية وفي الدول الإسلامية، وأدخلوا المنطقة وشعوبها في حروب الفتنة والتقسيم والتفتيت، الإخوان المسلمون العرب تاجروا بأوطانهم ولم يحترموا شعوبهم ولا دولتهم، فالإخوان الليبيون مثلاً تحالفوا مع الشيطان ومع أعداء بلادهم ودعوا الناتو للتدخل ودمروا البنى التحتية، وقتلوا بدم بارد لمجرد أن هناك طرفاً آخر يختلف معهم، وكانوا مستعدين لبيع ذقونهم، وادعائهم بالإيمان، وبيع الإسلام الذي يدعونه في بازارات المصالح الدولية والإقليمية ولا يزالون!

إشكالية الإخوان المسلمين الأساسية أنهم مشروع فتنة، والدين لديهم أداة للوصول للسلطة، ويستحضرون الله والقرآن في مواسمهم الانتخابية، ويبتعدون عن الأخلاق وجوهر الدين، إضافة إلى أنهم قتلة مجرمون، وتاريخهم أسود، والخارج قدم لهم المليارات لإيصالهم للسلطة من أجل مشروع واحد لجماعات الإخوان يشمل أربع نقاط:

1 ـ أمن كيان الاحتلال الإسرائيلي (تذكروا رسالة مرسي لبيريز- الغنوشي- أردوغان…).
2 ـ ربط اقتصادات الدول التي سيحكمونها بالمؤسسات الرأسمالية العالمية، ومنع قيام بنى إنتاجية حقيقية.
3 ـ منع أي شكل من أشكال النهوض الثقافي والتنويري والفكري، من أجل قيادة الدهماء وتوجيهها.
4 ـ تقسيم وتفتيت المجتمعات على أساس ديني ومذهبي لا بل المنطقة، ودولها لمصلحة كيان الاحتلال الإسرائيلي، فهم النموذج الأمثل لاستمرار قيام دولة يهودية خالصة.

خلاصة الكلام: من كان يعتقد أن جماعة الإخوان بكل تفرعاتهم الإقليمية والدولية قادرون على النيل من موقف ليبيا بتواطؤ (قطري غربي- تركي) أصبحوا اليوم يجرّون أذيال الخيبة، فانهزام الإخوان في في مصر، وسورية والطريق مفتوح اليوم لهزيمتهم في ليبيا... و''النهضة الإخونجية'' في تونس لن تجني سوى الفشل والهزيمة مهما غيّرت من لونها وتكتيكاتها التي باتت تتبعها اليوم بعد انكشاف أهدافها وغاياتها الخبيثة والتلطي خلف قيم الدين أصبح مفضوحاً للقاصي والداني.. والحساب قادم.

*باحث وكاتب صحفي من المغرب