حذّر خبراء من أن طموحات إثيوبيا المائية باتت تشكّل خطرا لا فقط على مصر بل على باقي دول حوض النيل، تدفعها إلى ذلك أياد خارجية تتخفّى في شكل شركات عالمية خفية الاسم، هدفها الرئيسي محاصرة مصر مائيا وتجريدها من النيل هبتها وإكسير حياة شعبها.

بدأت بعض دول نهر النيل “الصامتة” تتمرّد على البروتوكولات التي تنظم توزيع حصص المياه بينها. وظهرت بوادر هذا “التمرّد” في اجتماع وزراء دول حوض النيل في 2010، في العاصمة الكونغولية كينشاسا، حين تم الإعلان عن “الاتفاقية الإطارية للتعاون بين دول حوض النيل” التي تعرف بـ”اتفاقية عنتيبي” التي لا تعترف ببروتوكولات 1929 و1956، التي تمنح مصر 55.5 مليار متر مكعب والسودان 18.5 مليار متر مكعب.

 

لماذا ترفض دول النيل اتفاقيات 1929؟

تقول بعض دول حوض النيل، وفي مقدمتها إثيوبيا، إن الاتفاقات التي تنظم استخدام مياه نهر النيل وقعت في الحقبة الاستعمارية، ولا تلزم السلطات الحالية في تلك البلدان.

وترفض مصر ذلك، وتستند إلى قاعدة أساسية في القانون الدولي تنص على مبدأ توارث المعاهدات، في ما يتعلق بالمعاهدات الخاصة برسم الحدود الدولية والوضع الجغرافي والإقليمي، بحيث لا تنتهي تلك المعاهدات بانتقال السيادة في الإقليم.

واشترطت أن تكون جميع القرارات الخاصة بتعديل أي من بنود الاتفاقية أو الملاحق بالإجماع وليس بالأغلبية، وفي حالة التمسك بالأغلبية فيجب أن تشمل دولتي المصب (مصر والسودان) لتجنب انقسام دول الحوض ما بين دول المنابع التي تمثل الأغلبية ودولتي المصب اللتين تمثلان الأقلية.

 

ما المقصود بدول الحوض؟

يبلغ طول النهر 6650 كلم تقريبا، ويغطي حوضه مساحة 3.4 مليون كلم2، ويمر مساره بعشر دول أفريقية تعرف بدول حوض النيل. وتنقسم دول الحوض إلى دول المصب (مصر والسودان) ودول المنبع (كينيا وإثيوبيا وأوغندا وإريتريا وتنزانيا ورواندا وبورندي والكونغو الديموقراطية).

 

هل حوض النيل محطة استراتيجية؟

يشير الباحث أحمد علو في دراسة حول “دول حوض النيل وأزمة سد النهضة”، إلى أن لنهر النيل أهمية كبرى في اقتصاديات دول الحوض التي تعتمد عليه في الزراعة وصيد الأسماك والسياحة وتوليد الطاقة الكهربائية.

ويرى بعض الخبراء الاستراتيجيين أن حوض النيل يشكل اليوم فضاء جيوستراتيجيا بالغ الأهمية لأنه يتقاطع سياسيا مع مسارح المحيط الهندي والشرق الأوسط وأفريقيا.

بالإضافة إلى موارد النيل الطبيعية فإن في حوضه كمّا هائلا من البترول والنحاس والماس واليورانيوم والأخشاب، وهذا ما دفع القوى الدولية القديمة كبريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا، والقوى الصاعدة مثل الصين والهند والبرازيل، إلى التدافع والتزاحم بهدف الحصول على الثروة واكتساب النفوذ في دول هذا الحوض.

 

ما هو دور إثيوبيا في الصراع؟

في خضم الجدل حول إعادة توزيع مياه النيل، أعلنت إثيوبيا عن انطلاق مشروع سد النهضة لتزيد من تأزم الوضع، خاصة وأنها ضربت من قبل بقرار خبراء في مجال المياه عرض الحائط وتجاهلت تحذيراتهم خلال بنائها لسدّ تيكيزي. ويخشى خبراء أن تدفع إثيوبيا دول الحوض الأخرى إلى أن تحذو حذوها وتقوم بتنفيذ مشروعاتها لإنشاء السدود بها لتخزين المياه، بحجة أنها منبع النيل ومنها يذهب الماء إلى كل من مصر والسودان في حين أنها تعاني الجفاف.

 

ماهو سد الألفية؟

هذا التساؤل أجاب عليه الباحث أيمن شبانة، نائب مدير مركز الدراسات السوادنية، بجامعة القاهرة، في دراسة صدرت عن المركز الإقليمي للبحوث والدراسات. بدأها بتقديم المشروع قائلا إن سد النهضة مشروع كبير تسعى إثيوبيا إلى إقامته على النيل الأزرق بهدف توليد الطاقة الكهربائية. ويقع المشروع في منطقة (بني شنقول، جوموز)، على بعد 20-40 كلم من الحدود السودانية، وبارتفاع يبلغ نحو 500-600 متر فوق سطح البحر.

 

هل من مخاطر محتملة؟

حذّر أيمن شبانة من أن السد قد يصبح خطرا داهما على الجميع، خاصة مصر، باعتبارها دولة المصب الأدنى. فمساحة التخزين الهائلة أمام السد، التي تبلغ 74 مليار م3، سوف تؤثر بالقطع على نصيب مصر من المياه، بما يعنيه ذلك من بوار مساحة من الأرض الزراعية، تقدر بمليون فدان على الأقل، وتشريد زهاء خمسة ملايين مواطن، وتقليل قدرة مصر على توليد الطاقة الكهربائية بنسبة تصل إلى 20 بالمئة.

وثمة مخاوف أخرى متعلقة باحتمالات انهيار السد نتيجة عدة عوامل، منها:

*إسناد إنشاء السد بالأمر المباشر إلى شركة إيطالية مغمورة هي (ساليني Salini)، والتي سبق وأخفقت في تنفيذ بعض المشروعات الأخرى مثل سد تيكيزي.

* طبيعة التربة البازلتية التي يقام عليها المشروع.

* انخفاض معامل الأمان في تنفيذ السد، الأمر الذي ينذر بانهياره كليًا.

* الخطر الأكبر قد يكون غرق العاصمة السودانية، الخرطوم، تحت المياه المتدفقة التي يحتمل أن تصل إليها بعد أربعة أيام تقريبا، بارتفاع عشرة أمتار ونصف المتر. كما يحتمل أن تصل المياه إلى أسوان في مصر بعد ثمانية عشر يوما تقريبا، ومع الحجم الكبير للمياه المتدفقة، ربما ينهار السد العالي ومشروعات الري الأخرى.

 

من يدعم "تمرد" إثيوبيا؟

رغم أن أزمة مياه نهر النيل ليست بالأمر الجديد إلا أنها اتخذت منحى آخر وبدأت تحدث ضجة كبيرة على خلفية التغيرات البيئية والسكانية من جهة والتغييرات الإستراتيجية والسياسية من جهة أخرى صاحبها دخول جهات أخرى أجنبية. وتشير التقارير إلى تورّط جهات خارجية في هذه “الحرب” بتحريضها للدول التي تنبع منها مياه النيل من خلال تبني شركاتها إقامة مشاريع إنمائية فيها وإقامة السدود بتقديمها مساعدات فنية ومالية ضخمة.

وهذا ما يذهب إليه أيضا أيمن شبانة، حيث يشير في بحثه الذي عنونه بـ“كيف تدير مصر أزمة سد النهضة مع أثيوبيا؟”، إلى أن الغموض يكتنف مصادر تمويل سد النهضة، التي قدرتها إثيوبيا مبدئيًا بـ4.8 مليار دولار، حيث أكدت إثيوبيا أن السد يمول ذاتيا عبر الاكتتاب الشعبي في سندات قامت الحكومة بطرحها، وأنه لا توجد جهات أجنبية تشارك في التمويل.

لكن هذا الأمر لا يمكن قبوله في ظل تواضع القدرات الاقتصادية الإثيوبية، ويتساءل الباحث: “إذا لم تتمكن أديس أبابا من تحمل تكاليف سد “جيبي الثالث” في عام 2006، فكيف يمكنها تحمل تكاليف إنشاء سد النهضة خلال أربع سنوات فقط، خاصة أن السدود الإثيوبية تتطلب تكاليف مرتفعة في بنائها، وصيانتها، نظرا إلى الظروف الجيولوجية للمنطقة؟”

 

هل تتآمر إثيوبيا ضد مصر؟

نظرية المؤامرة تتوضح، وفق دراسة أيمن شبانة، أداء الجانب الإثيوبي بشأن أزمة سد النهضة تميز بنوع هائل من المراوغة تتضح من خلال تتبع الممارسات والتصريحات الإثيوبية، سواء في ما يتعلق باسم السد وتوقيت إنشائه أو بإمكانياته، وجهات تمويله. فقد عمدت أديس أبابا إلى التضليل لدى الإعلان عن مشروع سد باسم “مشروع إكس Project-X”، وعندما تم وضع حجر الأساس للمشروع فعليًّا في أبريل 2011، قررت تغيير اسمه إلى سد الألفية الكبير، ثم تغير الاسم للمرة الثالثة في الشهر نفسه ليصبح “سد النهضة الإثيوبي الكبير”.

أما توقيت الإعلان عن السد، فقد أعلنت حكومة ميلس زيناوي عن إنشاء سد النهضة كمشروع قومي تلتف حوله جموع الشعب الإثيوبي وتحشد الجماهير خلف الحكومة في مواجهة دعوات المعارضة السياسية إلى استحضار “الربيع العربي” في الإطاحة بنظام زيناوي. وهنا يبدو أن أديس أبابا قد استغلت الفرصة التاريخية التي اتيحت لها، عندما انشغلت الدولة المصرية بمواجهة تداعيات ثورة 25 يناير 2011، كما استفادت أيضا من وجود مناخ دولي داعم لها في اتجاه الضغط على مصر عبر ورقة المياه.

أيضا راوغت أديس أبابا بشأن إمكانيات السد، خاصة سعته التخزينية، وقدّمت معلومات متضاربة في هذا الشأن، إذ أعلنت عن سعة تبلغ 14 مليار م3، ثم واصلت المراوغة تدريجيًا حتى وصلت السعة إلى 74 مليار م3. وهنا يبدو أن الأمر يتخطى حاجة إثيوبيا إلى الاكتفاء الذاتي من الطاقة إلى وجود مخطط تشارك فيه إثيوبيا لتصدير الكهرباء، وخنق مصر مائيًا وتحجيمها كقوة إقليمية، بالتعاون مع جهات خارجية خاصة أن سد النهضة سوف يصاحبه إنشاء ثلاثة سدود أخرى بسعة تخزينية قدرها 200 مليار م3.

كيف أخطأت مصر في تقييم الخطر؟

يحمل الباحث أيمن شبانة الجهات المصرية جانبا من مسؤولية “الطموح” الإثيوبي الخطير، فهو يرى أن السياسة الإثيوبية الغامضة، قابلها بطء في التحرك وتسويف من قبل الإدارة المصرية. فمشروع سد النهضة لم يظهر على السطح بشكل مفاجئ، وإنما بدأت الدراسات بشأنه منذ عام 1946، بواسطة مكتب الاستصلاح الأميركي، الذي أعد دراسة تضمنت نحو 26 موقعا لإنشاء السدود، أهمها أربعة سدود على النيل الأزرق، حيث حمل السد محل الدراسة اسم سد (Border Dam)، واستمرت مصر في تأجيل القضية دون محاولة اتخاذ إجراءات تضمن تأمينها مائيا، لذلك تجددت الأزمة بعد ثورة 25 يناير 2011، بما يهدد مصر حاليًا بثمن فادح لإهمالها القارة الأفريقية طوال العقود الثلاثة الماضية.

 

هل خدعت إثيوبيا مصر؟

يرى أيمن شبانة أن مصر وقعت في خطأ كبير عندما وافقت على المشاركة في “لجنة ثلاثية” اقترحت أديس أبابا تشكيلها، من خبراء من مصر والسودان وإثيوبيا، لإعداد دراسة جدوى للمشروع وبيان إيجابياته وسلبياته.

وكان الأجدر بالسلطات المصرية، في ذلك الوقت، اشتراط توقف تنفيذ المشروع حتى تنتهي اللجنة من إعداد تقريرها النهائي، ودون أن يكون لتلك اللجنة الحق في إصدار قرارات ملزمة، حيث أن رأيها استشاري غير ملزم للجانب الإثيوبي، لتصبح اللجنة ذاتها هي العنصر الأهم في خطة “الخداع الاستراتيجي” التي مارستها إثيوبيا ضد مصر، وفق دراسة شبانة.

فهذه اللجنة أوحت للمجتمع الدولي بأن مشروع السد يجري تنفيذه بالتنسيق مع مصر والسودان، مما أتاح لإثيوبيا فرصة كسب الوقت، وفرض سياسة الأمر الواقع على مصر.

بل إنها تُظهر مصر بمظهر الدولة المعتدية في ما لو أقدمت على توجيه ضربة عسكرية إلى المشروع. وقد اتضح ذلك خلال جولات التفاوض الثلاث بين مصر وإثيوبيا والسودان، التي أجريت في الخرطوم، وكان آخرها في يناير 2014، عندما رفضت إثيوبيا مشاركة خبراء دوليين في اللجنة، أو منحها سلطة إصدار توصيات ملزمة.

 

ماهي المسارات المتاحة لمواجهة الأزمة؟

يخلص أيمن شبانة إلى أنه يمكن لمصر أن تصون أمنها المائي في مواجهة أزمة سد النهضة بالتحرك على عدة مسارات متوازية، هي: المسار التفاوضي والمسار السياسي والمسار الاقتصادي والمسار القانوني.

ويمكن لمصر التقدم بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي تتهم فيها إثيوبيا بخرق القانون الدولي وممارسة الإبادة الجماعية ضد المصريين، الأمر الذي يهدد السلم والأمن الدوليين.

وهنا يمكن للمجلس إصدار توصيات تلزم الجانبين بتسوية النزاع قانونيًّا، وفي حال تعذر ذلك، يكون للمجلس اتخاذ القرار المناسب، بما في ذلك عرض القضية على محكمة العدل الدولية.

 

*نقلا عن العرب اللندنية

 

_14120962707.jpg