تونس بلد مصدّر للإرهابيين،إذ هناك 3 آلاف تونسي مقاتل في سوريا والعراق وليبيا حسب الإحصائيات الرسمية ،دون اعتبار الناشطون في معاقل القتال داخل البلاد بجبال "الشعانبي" والكاف و جندوبة ... أبناء تونس مثل غيرهم من الدول العربية الإسلامية أصبح من السهل انزلاقهم في دوامة الإرهاب وتحويلهم إلى قنابل موقوتة. في حوار مع المختص في علم الاجتماع بالجامعة التونسية الأستاذ علي الهمامي كشف عن صناعة خطيرة باتت تستهدف المجتمعات العربية وتغرقها في حمام الدّم هي "صناعة الإرهاب"،وفي ما يلي نص الحوار:

ما هي أهم العوامل التي تساعد على تغلغل الإرهاب في المجتمع؟
تتظافر العوامل المشجعة على تغلغل الإرهاب في مفاصل المجتمع،إذ ينتعش ويتغذّى من عوامل مختلفة تجعله يتمركز ويعلن عن نفسه ويدافع عن أفكاره الهدّامة ويمنح نفسه مشروعية سفك الدماء بحجة دخول الجنة وقتل الطواغيت الكفرة وبناء الدولة الملائكية الفاضلة.

ألا ترى أن الفقر والبطالة من أهم الأسباب المؤدية إلى زرع الفكر الإرهابي في مفاصل الدولة بأن تصبح الطبقة المحرومة الأكثر استقطابا من طرف الجماعات الإرهابية ؟
العوامل الاقتصادية لا تكفي لإنتاج الإرهابيين، ففي تونس هناك ملايين الفقراء و المهمشين ،يعني أن عدد المسجلين في سجلات الفقر بوزارة الشؤون الاجتماعية التونسية يقدّرون بأكثر من 15 في المائة ،نضيف إلى هؤلاء 4 فاصل 6 بالمائة ممن يعيشون في فقر مدقع . وبالتالي فإن هذه الشريحة الفقيرة من المجتمع ليست بالضرورة لها انتماءات متطرفة وقابلة للاستهداف والتصيّد ولديها علاقة بالإرهاب،فهذه الظاهرة هي صيرورة تسهل الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأمنية ظهورها وانتشارها.فالإرهاب طال الأدمغة و الطلبة والميسورين ،والأحداث الأخيرة التي شهدتها منطقة شباو من محافظة منوبة غرب عاصمة تونس هي طالبة في الطب متميزة ومن نخبة النابغين نجحت في البكالوريا ب19 من عشرين،كما أن اليد اليمنى لأبي عياض الرأس المدبرة للسلفيين في تونس والهارب إلى ليبيا بعد مطاردته في البلاد هي مهندسة وقد لقيت حتفها خلال مواجهات أمنية.

إذن كيف يُنتج الفكر الإرهابي؟
هناك ثلاث مراحل أساسية في هذا المجال،مرحلة الرصد والتصيّد للضحية انطلاقا من رسم "بورتري" للإرهابي والخصائص العامة. وصورة الإرهابي متماثلة مع بعض الاختلافات الاقتصادية والثقافية والجهوية والاجتماعية.فهو شخص عادي يعيش في الشارع ينتقل من المدرسة إلى الجامعة و المقهى والملاعب وحتى الملاهي ،يكتشف المساجد إما بطريقة تلقائية أو باستدراجه إليها من طرف أحد "الصيّادين" الذي يختبره بطريقة غير مباشرة من خلال جس النبض والتعرّف على شخصيته ونقاط ضعفه ،وبعد ذلك يكون اتخاذ القرار ب"الانتداب" أو التطوّع لنشر الأفكار الإرهابية وتنفيذ المخططات الدموية ،وتكون أولى الخطوات بتعريفه بقيم الإسلام والعقيدة بأسلوب ساحر يغري بدخول الجنة والاستمتاع بالنعيم الخالد وغيرها،يكون أصحاب النفسية الهشة الأكثر تأثرا بهذه الأساليب.

لكن كيف يتم تطويع الشخص ومنحه الثقة للاطلاع على أسرار المجموعة الإرهابية والانضمام إليها؟
يدخل ذلك في إطار المرحلة الثانية من عملية الاستقطاب ،وهي مرحلة "الدَمْغجة" من خلال تطويع الشخص للفرد "القائد" ويكون شيخا من الشيوخ تتوفر فيه خصوصيات القيادة والتأثير ،يتولى الإجابة على كل الأسئلة الحارقة المطروحة في المجتمع مثل قضايا الجهاد والتوحيد والعبادات ودخول الجنة والكفر والإيمان،وعادة ما تكون هذه الإجابات قوالب جاهزة فضفاضة وسطحية تؤثر مباشرة على كل متلقي له زاد معرفي ديني محدود ،وبعد تطويع الشخص وإخضاعه لهيمنة الفرد القائد يقع إخضاعه لهيمنة المجموعة الإرهابية.

لماذا تنجح هذه الجماعات في خلق حواجز متينة بين الشاب المستقطب ومجتمعه إلى درجة التكفير والتصفية الدموية؟
هنا يأتي الحديث عن المرحلة الثالثة في عملية الاستقطاب بعد التصيد وغسل الدماغ ،و هي مرحلة القطيعة إذ ينقطع هذا الشخص الذي وقع تصيّده عن المجتمع والعائلة و حتى الحبيبة والزوجة والأبناء ويعتبرهم كفرة وغير مؤهلين للتعامل معهم وينخرط في مجتمع آخر جديد يعيش على هامش المجتمع الأصلي ويغيب عن العائلة و يتحول بذلك إلى خلية إرهاب نشيطة. طبعا تقوم العائلة هنا بإعلان غيبة بعد فقدان أحد أفرادها فجأة في وقت يكون فيه هذا الشخص قد التحق بصفوف المجاهدين في سوريا أو العراق أو ليبيا أو حتى في معاقل التجنيد داخل تونس.

لكن ما الذي يجعل بعض الشبان أكثر استعدادا من غيرهم للانخراط والانتداب في هذه الشبكات؟
تتم عملية الاختيار دائما على قاعدة منظمة توفرالمال وعلاقات مع منظمات أخرى تتحرك داخل عالم "مُعوْلم" ومدروس للانتداب والتصيّد، لكن هذا الاختيار لا يكون اعتباطيا إذ هناك فئات مستهدفة تشكو من هشاشة نفسية مثل الوقوع تحت تأثير صدمات عاطفية أو اضطرابات نفسية و تأثيرات اجتماعية مثل التشتت العائلي كاليتم والطلاق وضعف العلاقات الاجتماعية والانحراف، وكذلك تأثيرات اقتصادية مثل البطالة والفقر ،إضافة إلى عنصر هام نغفل عن ذكره يتمثل في جاذبية الخطاب الديني المتطرّف وقدرته على التأثير على هؤلاء.

ما الحل؟
عندما تختفي أحد هذه العناصر :التمويل ،الاختيار والهشاشة لا يمكن "صناعة" الإرهابي وتكون عملية الاستقطاب صعبة.وهنا يأتي دور الدولة ومنظمات المجتمع المدني في ضرب حلقة من هذه الحلقات وإحباط عمليات الاستدراج والتجنيد في صفوف الإرهابيين بتحسين ظروف العيش وإيجاد الحلول للبطالة وتحسين المساعدات الاجتماعية ،كما أن رجل الدين الذي يتصف بالاعتدال والوسطية عليه أن يتدخل من فوق منابر المساجد للقضاء على الفكر الديني المتطرّف.مع التدخل الأمني لمراقبة الكتاتيب والمساجد و مصادر تمويل الجمعيات والتأكد من مدى "نظافتها" وعدم تورطها في دعم الإرهاب بالأموال المشبوهة.
و بالتالي فإن مقاومة الإرهاب تكون شاملة وكل طرف يتدخل لضرب حلقة من حلقاته حسب مجالات تدخله.
.ذكرت الكتاتيب والجمعيات الدينية واستهداف الناشئة،لكننا نعيش في دول إسلامية لا يمكن أن نحرم فيها الأطفال من الاطلاع على قواعد دينهم الحنيف بحجة التصدي للإرهاب؟
للأسف أقحمت الجماعات الإرهابية الأطفال أيضا في" الدمغجة" وغسيل الدماغ على المدى الطويل ،أي بغرس أفكار الكراهية والتكفير والإقصاء تحت غطاء تحفيظ القرآن، هناك فرق بين حفظ القرآن وبين حشو الفكر الناشئ بكراهية الآخر ونبذه وأفكار الطاغوت والكافر وثقافة الدم . فنحن لسنا ضد تحفيظ القرآن واشتغال الكتاتيب وفتح المساجد ومساعدة الطفل على التعرف على دينه ،دين السماحة والوسطية والاعتدال والتآلف والمحبة ،لكن دون تحويل وجهة ذلك لغايات التهديم والتخريب وتحويل الأطفال إلى قنابل مستقبلية موقوتة.