لقي الأوضاع الأمنية المتردية بظلالها على العاصمة الليبية، التى تعاني منذ إندلاع الأزمة فى العام 2011، من مشهد صعب يرسم صورة مدينة تجثم الميليشيات المسلحة على أنفاسها وتغلفها الفوضى.

آخر الصور المأساوية للوضع الأمني في طرابلس، كشف عنه الهجوم الإرهابي الأخير الذي إستهدف مقر وزارة خارجية حكومة الوفاق الوطني الليبي، في شارع البحر وسط طرابلس، الثلاثاء الماضي، مخلفا عددا من القتلى والمصابين.وفق ما أعلنت عنه وزارة الصحة بحكومة الوفاق الوطني.

ولفت هذا الهجوم الأنظار إلى خطورة تنظيم "داعش" المتواصلة بالرغم من إنكساراته السابقة، كما ألقى الضوء على الهشاشة الأمنية التي تعاني منها طرابلس، على الرغم من إنطلاق حكومة الوفاق في تنفيذ الترتيبات الأمنية، بهدف إرساء الأمن داخل العاصمة الليبية بقوات شرطة نظامية، وإنهاء دور الميليشيات المسلحة.

خطر "داعش"

وأعلن تنظيم داعش مسؤوليته عن الهجوم، وقالت مجموعة "سايت" الاستخباراتية التي تتعقب أنشطة التنظيمات الجهادية عبر الإنترنت إن تنظيم "الدولة الإسلامية" الإرهابي أعلن مسؤوليته عن الهجوم الذي استهدف وزارة الخارجية الليبية في العاصمة طرابلس.

ويشكّل هذا الهجوم تغييرا ملحوظا في تكتيك "داعش" القتالي، منذ هزيمته في معركة سرت (شمال) نهاية 2016، على يد قوات البنيان المرصوص، التابعة لحكومة الوفاق الوطني، وفقدانه لجميع معاقله.

فالتنظيم الذي مني بهزائم كبيرة أنهت حلمه في إقامة إمارةفي ليبيا والسيطرة على مدن ومناطق واسعة، إنتقل إلى القيام بعمليات استعراضية على غرار هجومه على مقر المفوضية الوطنية العليا للانتخابات بغوط الشعال، بالعاصمة الليبية طرابلس،  مطلع مايو الماضي، والذي أسفر حينها عن سقوط عدد كبير من الضحايا بين قتيل وجريح وتسبب في إحداث دمار كبير في مقر المفوضية

إظافة إلى هجوم على مقر المؤسسة الوطنية للنفط، في سبتمبر/أيلول 2018، والذي أدى إلى وقوع عدد من الانفجارات داخل المبنى وإطلاق نار كثيف،  كما تم احتجاز عدد من الموظفين مؤقتا كرهائن إلى حين وصول قوات الأمن لتحرر من كان في الداخل.وقد قتل فيه حارسي أمن، بالإضافة إلى مصرع المجموعة المهاجمة.

ويلجأ التنظيم إلى القيام بالعمليات الانغماسية، في المدن الكبرى، والتي تعتمد على هجوم بالأسلحة الرشاشة تنتهي بتفجير الانغماسيين أنفسهم بعد انتهاء ذخيرتهم أو محاصرتهم، لإيقاع أكبر صدى إعلامي ممكن، وضحايا أكبر وخسائر أقل.ويستغل "داعش" الاقتتال بين أطراف النزاع في ليبيا أو المليشيات فيما بينها داخل المعسكر الواحد.

ورغم أن "داعش"، اقتنع أنه ليس بإمكانه السيطرة على المدن كما كان عليه الأمر ما بين عامي 2015 و2016، فإن هجماته الإستعراضية في مدينة كبيرة وبأعداد قليلة تنتهي بمقتلهم جميعا، تستهدف رفع معنويات عناصره ومحاولة إظهار نفسه كتنظيم قوي قادر على الإختراق والعودة، وإعادة إحياء عملية الإستقطاب التي تراجعت بشكل كبير بسبب هزائم التنظيم وضعفه. 

وسبق أن حذرت تقارير من أن ظهور تنظيم داعش في العاصمة طرابلس سيكون من خلال خلاياه النائمة والتي ستعمل عناصرها على تغيير الملامح كحلق اللحى وإزالة الجلابية والقمصان القصيرة، لتتمكن من التحرك في المدينة بسهولة ودون لفت النظر وتنفيذ عمليات تثير البلبلة والرعب.وتشكل هذه العمليات الإرهابية تحديًا أمنيًا كبيرًا، لأن مواجهتها والاستعداد لها ومجابهتها عمل جد صعب، كونها جد معقدة وسرية ومنسقة.

الاستقرار الأمني ما زال بعيدًا

الهجوم الدموي الذي نفذه عناصر تنظيم الدولة "داعش" على مقر الخارجية الليبية بالعاصمة طرابلس، أثار تساؤلات عدة حول مصير الترتيات الأمنية وإمكانية فشلها، خاصة وأن الهجوم نسف وبقوة تطمينات رئيس المجلس الرئاسي فايز السراج، والمبعوث الأممي لدى ليبيا غسان سلامة، في أكثر من مناسبة، التي تؤكد أن الترتيبات الأمنية تسير بشكل جيد.

ومنذ الإعلان عن بدإ تنفيذها، تعالت الإنتقادات تجاه الترتيبات الأمنية، وإعتبرها الكثيرون غير كافية لتحقيق الأمن في مدينة تبقى رهينة لقبضة هذه المجموعات المسلحة وعصابات المال العام.

لكن الإنتقادات هذه المرة جاءت على لسان وزير الداخلية المكلف في حكومة الوفاق فتحي باشاغا، الذي قال إن العاصمة طرابلس تعيش فوضى، أدت إلى فشل الأجهزة الأمنية والعسكرية في منع وقوع الهجوم على وزارة الخارجية.واضاف خلال مؤتمر صحفي مشترك مع وزير الخارجية في الوفاق محمد سيالة والناطق باسم الرئاسي الليبي محمد السلاك، إن تلك الأجهزة عجزت عن ردع الهجوم، مشيرًا إلى اعتبار خطة الترتيبات الأمنية غير منظمة، ولم يقم المكلفون بها بواجباتهم؛ وذلك لظروف عديدة، حسب قوله.

وأضاف بأن الترتيبات الأمنية لم يتم تنفيذها على الإطلاق واصفاً الوضع الأمني بأنه هش وفوضوي وقال: "الكل يملك من الذكاء والقدرة على التمييز من هو الذي يعمل بمهنية ومن هو الفوضوي". وأشار باشاآغا بأن موارد وزارة الداخلية وقدرتها اللوجستية والمالية حالياً ومخازنها يساوي صفر فيما تملك داعش المال والموارد والعقيدة الفاسدة العابرة للحدود.

تصريحات الوزير أكدت العجز الحكومي على الرغم من بيانات حكومة الوفاق وتصريحات مسؤوليها التي توالت بعدها، للتأكيد على بدء تحقيق في الحادث، وأن وزارة الخارجية لا تزال قادرة على أداء مهامها.لكن هذه التطمينات من قبل الحكومة ومسؤوليها الآخرين لم تنجح في الإجابة عن حقيقة الخطة الأمنية وقدرة الحكومة على فرضها في ظل تواصل تعويلها على المليشيات ولكن بمسميات جديدة.

ويرى البعض، أن الهجوم الأخير يزيد من حالة القلق في العاصمة الليبية بينما يتصاعد الاحتقان الشعبي من عجز الحكومة عن معالجة هشاشة الوضع الأمني ، في ظل عجزها عن السيطرة على الأوضاع وفرض الأمن وتعويلها على عدة ميليشيات أعلنت ولاءها لها، لتأمين العاصمة مقابل إضفاء الشرعية عليها.

وظلت العاصمة طرابلس مسرحًا لاهتزازات وإضطرابات أمنية متواترة بين المليشيات المسلحة، منذ سنة 2014، حين احتد الصراع وإشتدت الإنقسامات في إثر انتخابات مجلس النواب وما تلاها من تشظي المشهد السياسي والأمني والمؤسساتي بين معسكرين شرقا وغربا.

وظل المشهد الأمني في طرابلس يراوح مكانه، مع تقاسم للنفوذ وهدوء نسبي تخرقه اشتباكات محدودة بين مختلف المليشيات، على غرار الإشتباكات التي إندلعت في 26 أغسطس/آب 2018، والتي أعتبرت الأعنف بين المليشيات منذ سنوات، واستمرت لنحو شهر مخلفة عددا عشرات من القتلى والجرحى وخسائر مادية كبيرة.

ورغم توقيع اتفاق لوقف إطلاق النار بين المتنازعين برعاية البعثة الأممية، في 4 أيلول/ سبتمبر 2018، ثمّ توقيع اتفاق ثانٍ، بعده بخمسة أيام، لـ "تعزيز وقف إطلاق النار"، فإن مؤشرات كثيرة ظلت تنبئ بأن العاصمة قد تكون في انتظار جولات أخرى من الاقتتال، خاصة مع إستمرار موجة الإغتيالات لتي إستهدفت عناصر مليشياوية وهو ما أعتبره البعض إستمرار لصراع النفوذ وتصفية الحسابات وسط عجز حكومي متواصل.

ويشير الكثير من المتابعين للشأن الليبي، إلى أن الهجوم الأخير أكد إن مقار ومنشآت عدة في العاصمة ليست مؤمنة ضد هجمات إرهابية، مثلما لا يمكن للمؤسسات الأمنية العمل في ظل الإنقسامات التي تطغى على الساحة وهو ما يعطي مجالا وبيئة خصبة للعناصر الإرهابية والإجرامية للتحرك وممارسة أنشطتها دون رادع.