وقفت على حافة شاطئ البحر شاردة الذهن والموج يتتابع متكسرا على الصخور الصلبة المنحوتة بفعل الماء والزمن...كانت تنظر إلي البعيد حيث اللانهاية لامتداد البصر هناك عند الفراغ المحيط بحواسها

صبية  ممشوقة القوام، ترتدي بنطلون جينز (امريكي) وكنزة صوفية غزلت في مصانع (باريس) بلون غامق لا يتناسب وعمرها الصغير...فتاة في الثامنة عشر من عمرها تكسرت أحلامها  المتهورة ذات ليلة شتوية عاصفة من عام منصرم حزم أمتعته ورحل كما يرحل الغريب عنا في ليلة المطر.....

كانت تقف هنا لحظتها على ناصية حلم كانت تراه جميل ولاجله تقاتل  لانه يستحق ولم تدري بأنها  تقتل نفسها برصاصة الحزن  وماء البحر......

كان الوقت حينها عند غروب الشمس،  والصبية الجميلة واسعة العينان كوالدتها الراحلة   تخطو نحو  ثنايا البحر   وهو يتلقفها كأنه كان في أنتظارها   وروح والدتها المغدورة تحوم هناك كطفلة ضائعة.... ..

الصياد من مكانه القريب وبعض رفاقه كانوا ينظرون إليها  بأستغراب ويتهامسون وقد عدلوا عن قرار ركوب البحر  للصيد في هذا  اليوم   العاصف نظرا لطبيعة البحر الغاضبة ربطوا مراكبهم للشاطئ حتى لا تحملها الامواج  في ثورة غضبها، وتحطمها لتتركها أشلاء ممزقة .. كما فعلت بمراكب قبلها..

قال أحدهم بصوت مرتعش يبدو أن الفتاة شاردة الذهن  وقال الآخر بخوف شديد يبدو أنها يأئسة وتحاول الأنتحار  ...هنا أنتفض الصياد  الشاب الصغير   من بين الصيادين المرتعشين وأسرع نحوها،   كانت  تخطو نحو البحر وتنادي بصوت ضعيف ...أماه ..أماه... أنا هنا لقد أشتقت إليك كثيرا  يا أمي   أنا من دونك وحيدة ضائعة ...

كانت تبكي بحرقة وهي تتذكر كيف أنها هي التي حملت أمها على ركوب البحر .......ولحظة همت بألقاء نفسها إلي الموج ..أحتضنها الصياد الشاب  من الخلف وعاد بها إلي الوراء  صارخا   ماذا تفعلين بنفسك ..مجنونة أنت ..أستيقظت لحظتها وهي تصرخ  لقد قتلت أمي أنا وأخوتي قتلنا أمي.... ...

أحتضنها الشاب بقوة   وظل يهدئ من روعها  وهو يقول لها بصوت  رصين(  لا أحد يموت ناقص عمر )  .." ولكل أجل كتاب " ألتفت إليه وقد أفلتت نفسها منه وهي تقول لا  نحن قتلنا أمنا بأنانيتنا وطيشنا ..ثم بكت بحرقة

ظل الشاب ممسكا بيدها وهو يحاول تهدئتها حتى هدأت  قليلا.....

فقال لها   بأبتسامة صغيرة أنا الصياد  الصغير رحل والدي عن الدنيا في حادث سير أليم في طرق متكسرة بفعل الحروب والاشتباكات وهو يسرع  للحاق بطابور البنزين، أما امي  في طابور المصرف  وترك لي أختين وأم مقعدة  وأتا من أعيلهم بفضل الله سبحانه وتعالى....

هيا معي إلي البيت   فهو قريب من هنا وقابلي أمي وشقيقتاي   ترددت وهي تتراجع إلي الخلف ..

لاحظ خوفها وترددها   أخرج هاتفه النقال من جيبه واتصل بوالدته مكالمة فيديو ليطمئنها .. 

ذهبت معه بعد تردد طويل   بعد أن استكانت وهدأت ..

وحين وصل إلي بيتهم وجد أخته الكبرى في أستقباله عند الباب  كانت تنظر إلي الفتاة مستغربة

فبادرها بالقول هذه أخت صديق لي تعطلت سيارتها بالقرب منا  وهي ضيفتنا  لساعات ..فردت أخته  وهي تبتسم كلنا ضيوف على هذه الدنيا ...

دخلت الصبية البيت وسط ترحاب أختيه وأمه المقعدة  على الكرسي المتحرك ذي العجلات ..

كانت تنظر إلي اركان البيت البسيط المتواضع وتقول في نفسها وهي تنظر إلي وجوهم المشرقة ونظرات عيونهم المرحة ..كيف أنهم سعداء  ومرحين وحياتهم بهذه البساطة! ........."  أنها القناعة والرضا... "

تذكرت لحظتها عينا والدتها  رائعة الجمال و،هي تغمضهما بعد أن أغرقتها أمواج البحر في رحلة الهروب إلي بلاد العجم من فزع وكوابيس بلاد العرب .. وتألمت كثيرا  وهي تتذكر كيف أنها كانت تلح على والدتها بالهجرة للحاق بحبيبها  الذي هاجر قبلها  بشهور في مركب قدر الله له النجاة من الغرق  حين أنتشلته سفينة أنقاذ  للعجم ..وفرارهم بأخيها القاتل الذي قتل شابا صغيرا دون ذنب سوء أنه لم يتوقف في البوابة الوهمية التي أنشئها ورفاقه العاطلين عن العمل تذكرت كل ذلك بمرارة وهي ترتعد حينها اقبلت نحوها الاخت الصغرى للشاب وأحتضنتها وقالت لها بحب هدئ من روعك أنت في بيتك وبين أهلك ..هدأت قليلا ثم أرتمت في أحضان السيدة المقعدة وهي تبكي بحرقة وتهمس بصوت مخنوق أمي..أمي ...طبطبت السيدة على كتفها بحنو وقالت لها بحب غامر

يا أبنتي لا تخافي أنت في حضن أمك  بأمان...

هنا رفعت عيناها والتقت نظراتها بنظرات السيدة الحنون فهدأت وابتسمت ...

أخذتها الاخت الكبرى إلي غرفة نومها ..فنامت نوم عميقا  في سريرها ولم تصحو إلا بعد إشراقة اليوم التالي بساعات اقتربت من الظهيرة...

كان البيت يعج بالمرح وصوت فيروز  يغني .بسحر ...

راجعين ياهوى راجعين

يازهرة المساكين

راجعين ياهوى على نار الهوى

راجعين ياهوى راجعين

منودع زمان منروح لزمان

ينسانا على أرض النسيان

منقول رايحين منكون راجعين

على دار الحب ومش عارفين

لحطتها ألتقت عيناها وعينا الصياد الشاب

وهي تهم بدخول صالة الاستقبال الصغيرة ...