الخطر الإرهابي الذي أضحى يحيط بتونس من الجهتين الشرقية والغربية، ويتهدّد أمنها واستقرارها من الداخل، منذ الانتفاضة التي أطاحت بنظام زين العابدين بن علي سنة 2011، بالإضافة إلى تنامي الخطر الجهادي خاصة في الجارة ليبيا، أضحى يهدد اليوم بنسف المسار الديمقراطي الذي اختارته تونس لنفسها وبدأت في تأسيس لبناته الأولى مع إجرائها لانتخابات تشريعية حرة ونزيهة في الـ26 من أكتوبر الماضي، ويبدو أن خطره لن يتقلص ولن ينتفي إلا مع استكمال الاستحقاق الرئاسي المقبل الذي يعول فيه التونسيون على انتخاب رئيس للجمهورية يحفظ لهم أمنهم واستقرارهم.

بعد زيارة البحث الميدانية التي قام بها وفد مشترك من “جمعية الصحافة الأوروبية للعالم العربي” و”معهد الآفاق والأمن في أوروبا” للدراسات الاستراتيجية إلى تونس قبيل إجراء الانتخابات التشريعية في السادس والعشرين من أكتوبر الماضي، عبّرت المؤسستان عن ارتياحهما التام للأجواء التي رافقت إجراء تلك الانتخابات، والتي تمّت في “ظروف جيدة”، كما نوهتا بالدور الإيجابي المهم الذي لعبته مؤسسات المجتمع المدني التونسي والذي أسهم في إعطاء زخم للممارسة الديمقراطية في البلاد.

ماهي التحديات المطروحة؟

بعد مرور ثلاث سنوات من الغموض حيث لا تزال الديمقراطية والحقوق المدنية في تونس عرضة للخطر جراء التهديد الإرهابي، اعتبرت المنظمتان أنه من الضروري أن تطوي تونس صفحة الاغتيالات السياسية وكل أنواع الأعمال الإرهابية التي خيّمت على مرحلة ما بعد الثورة، كما اعتبرتا أنه من الضروري أيضا أن تطوى صفحة السياسة الغامضة التي رافقت مرحلة حكم “الترويكا”، التي قادها الإسلاميون.

بالموازاة مع ذلك وقبل أيام قليلة من موعد إجراء الانتخابات الرئاسية في تونس، لابد من التذكير بأنّ رئيس الجمهورية أصبح بموجب الدستور الجديد القائد العام للقوات المسلحة، وهو بالتالي الضامن للأمن والاستقرار، في ظلّ الأخطار الإرهابية المحيطة بالبلاد، ومن هنا تكتسي انتخابات رئاسة الجمهورية التي ستجرى دورتها الأولى في الـ23 من الشهر الجاري، أهمية خاصّة وأساسية لدى التونسيين، وهذا مايفسر ارتفاع نسبة المشاركة في الرئاسية؛ حيث يرجح عدد من المراقبين ومؤسسات استطلاع الرأي أن تتجاوز نسبة المشاركة في الانتخابات الرئاسية المقبلة الـ70 في المئة من إجمالي الناخبين المسجلين (أكثر من 5.2 مليون)، أو بما يعادل 5 نقاط أكثر من نسبة المشاركة في الانتخابات التشريعية الفارطة والتي بلغت رسميا 69 بالمئة.

وتوقعت استطلاعات للرأي قامت بها مراكز متخصصة لحساب جهات حزبية تونسية، ارتفاعا في نسبة مشاركة الناخبين، مقارنة بالتشريعيات الأخيرة، بما يقارب 5 نقاط أو يتجاوز الـ70 في المائة، مشيرة إلى أكثر من سبب لهذه الزيادة، منها فتح الهيئة العلية المستقلة للانتخابات الباب من جديد لتسجيل عدد من الناخبين قاموا بتسجيل أسمائهم بالفعل كناخبين ولم يجدوا أسماءهم في كشوف الناخبين خلال التشريعيات الأخيرة.

ويتعلق هذا الأمر تحديدا بما يقرب من 11 ألف ناخب جلّهم يقيمون بالخارج، بحسب مصادر متخصصة في هذه المراكز فضّلت عدم الكشف عن هويتها ولا عن هوية هذه المراكز نظرا لأنها غير مخولة بالحديث للإعلام ولأن هذه الاستطلاعات تنفذ لحساب جهات محددة.

أين تكمن أهمية الانتخابات الرئاسية؟

في هذا الإطار، يعتبر مانويل دو بوي، رئيس معهد الآفاق والأمن في أوروبا للدراسات الاستراتيجية، “أن تونس بحاجة إلى الاستقرار والأمن”، مشيرا إلى أنّ هذا الهدف لا يمكن أن يتحقق إلا عن طريق “انتخاب رئيس قوي ذي هوية سياسية واضحة”.

كما أضاف، “أنّه من الضروري أن تطوي تونس مرحلة السنوات الثلاث الانتقالية التي تلت انتفاضة سنة 2011، خاصة بعد الصمت المطبق الذي اتسمت به معظم قيادات وأفراد الطبقة السياسية (خاصة قادة حركة النهضة الإسلامية الحاكمة في تلك الفترة) في مواجهة تهديدات الجماعات الإرهابية. ولهذا فإن عزم الرئيس الجديد وتصميمه على تحمّل مسؤولياته، أمران أساسيان لمواجهة تلك التحديات”.

من جهته، قال أنطوان كولونا، نائب رئيس جمعية الصحافة الأوروبية للعالم العربي: “إن المجتمع المدني التونسي أظهر ديناميكية وحيوية كبيرتين في الدفاع عن الحقوق الديمقراطية المكتسبة حديثا في تونس، وهو يأمل في أن يتم انتخاب رئيس جديد يجسد طموحات شعبه (خاصة في ما يتعلق بمسألة تحقيق الأمن والقضاء على الإرهاب) ويكون على قدر اَمال المجتمع المدني وأن يلبي تطلعات جيل الشباب المغلوب على أمره”.

وفي هذا الإطار يرى مراقبون أن الأهمية التي تكتسيها الانتخابات الرئاسية المقبلة تكمن في أنها ستحدد هوية “الرجل الحازم” الذي سيضرب بيد من حديد من أجل مكافحة الإرهاب وردّ خطره، عكس ما اتسمت به فترة الرئيس المنتهية ولايته، المنصف المرزوقي، الذي يرى أغلب التونسيين أنه لم يكن جديا في معالجة هذه الآفة، بل إنه اليوم، وهو في إطار حملته الانتخابية، يستعين ببعض الأصوات والوجوه التي طالما تورّطت في أعمال عنف وعرف عنها تعاطفها مع الجماعات الإرهابية، وفق رأيهم.

من يتحمل مسؤولية تدهور الأوضاع؟

يرى عدد من الخبراء الأمنيين أنّ نقطة ضعف تونس على المستوى الأمني تكمن في حدودها الجنوبية مع ليبيا والغربية مع الجزائر، حيث يقاوم مقاتلون إسلاميون متمركزون في جبل الشعانبي، المجهودات المشتركة بين الجيشين التونسي والجزائري لإزاحتهم.

وترجع أسباب تفشي الإرهاب، حسب مراقبين، إلى “التخاذل” الذي اتّسمت به فترة حكم الإسلاميين وحلفائهم للبلاد ممّا فتح المجال أمام الإرهابيين لينفّذوا عمليات غادرة راح ضحيتها عدد من رجال الأمن والجيش الوطنيين، جدّ آخرها قبيل الانتخابات التشريعية الأخيرة، حيث أدّت مواجهة بين قوات الأمن التونسي ومجموعة إرهابية مسلحة في ضواحي العاصمة التونسية إلى مقتل شرطي وستّة متمردين إسلاميين، خمسة منهم نساء.

وفي هذا السياق، يرى المراقبون أنّ التونسيين الذين شاركوا في الانتخابات الأخيرة بنسبة ستين في المئة، يبدو أنّهم ضاقوا ذرعا بحركة النهضة الإسلامية وسياساتها خاصة في ما يتعلق بالجانب الأمني، حيث أنها تبدو متواطئة في ما آلت إليه البلاد من فوضى في نظرهم، وفضلوا إعطاء حزب نداء تونس (العلماني المناهض للإسلام السياسي) أغلبية الأصوات ممّا مكنه من حصد 86 مقعدا في البرلمان القادم واحتلال المرتبة الأولى.

وفي حين أن الاقتصاد والوظائف تمثل عنصرا أساسيا في هذا التحول في الولاء، يكتسب الوضع الأمني الإقليمي والمحلي وزنا كبيرا في دولة صغيرة أظهر الإسلاميون الذين حكموها على مدى ثلاث سنوات، فشلا ذريعا في الاستجابة لطلبات التغيير والاستقرار التي أطلقها جيل من الشباب مازال يعاني من ارتفاع نسب البطالة.

من الرئيس الأقدر على تحقيق الأمن؟

الثابت، وفق ما سبق أن أشرنا إليه، أنّ الانتخابات الرئاسية المقبلة تكتسي أهمية قصوى لدى مجمل التونسيين من أجل إعادة الأمن والاستقرار، وبالتالي معالجة جل القضايا الاقتصادية والاجتماعية المرتبطة رأسا بهما.

وفي هذا السياق يرى مراقبون أنّ شخصية الرئيس المقبل “الرجل القوي الحازم” التي يرسمها التونسيون في أذهانهم ستؤثر بشكل كبير في اختياراتهم لاحقا. خاصة أن هذه الشخصية بالفعل تجسّدت لديهم في فترات سابقة في شخص الباجي قائد السبسي، رئيس حزب نداء تونس، زمن رئاسته للحكومة الثانية التي تلت انتفاضة 2011، وهو ما يجعله صاحب الحظوظ الأوفر للفوز بكرسي الرئاسة، خاصة مع تواتر إخفاقات الرئيس المرزوقي المنتهية ولايته، الذي يصفه ذات المراقبين بالـ”لاعب الفاشل”.

ولأنّه مدرك، بدوره، لأهمية المسألة الأمنية وأولويتها لدى عموم التونسيين، فقد عمد الباجي قائد السبسي إلى التركيز عليها في مجمل خطاباته الأخيرة التي تتنزل في إطار حملته الانتخابية. حيث تعهّد السبسي مؤخرا بصد الأعمال الإرهابية، لدى زيارته لمحافظة القصرين (وسط غرب تونس) التي تضم جبل الشعانبي الذي شهد أحداثا إرهابية متفرقة على مدى السنتين الماضيتين، أهمها حادثة ذبح ثمانية جنود على أيدي متشددين يحتمون بهذا الجبل وينتمون إلى كتيبة عقبة بن نافع، التي تعدّ الذراع المسلح لتنظيم أنصار الشريعة المحظور.

وفي ذات السياق، تعهّد السبسي بـ”إنزال الإرهابيين من جبل الشعانبي”. حيث قال: “نزور اليوم أهالينا في القصرين، ونحيي المناضلين والمقاومين من المنطقة الذين صعدوا إلى جبال سمامة والشعانبي (سابقا لمقاومة الاستمعار الفرنسي) فيما اليوم وللأسف صعد إليها آخرون (يعني الإرهابيين)، غير أننا سنقوم بإنزالهم من الجبل بتضافر جهود المؤسسة الأمنية والمواطنين”.

وأضاف الباجي قائد السبسي، أن “لا أحد ينكر التضحيات التي قدمتها القصرين إبان الثورة (التي أطاحت بالرئيس الأسبق زين العابدين بن علي في 2011)”، مشيرا إلى أنّ الوضع الأمني “صعب ولابد من تغييره.. وسيتغير”.

وفي هذا السياق يرى قطاع واسع من التونسيين أنّ الباجي قائد السبسي، السياسي المخضرم، الذي سبق له أن شغل العديد من المناصب الحكومية في عهد الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة، هو الرئيس الأقدر على مواجهة آفة الإرهاب وإعادة الأمن والاستقرار إلى البلاد، وهو ما حدا بهم إلى منح ثقتهم لحزبه نداء تونس في التشريعية الأخيرة، وهو كذلك ما يراه مراقبون سببا قويا لمنحه الثقة لنيل منصب رئيس الجمهورية في السنوات الخمس المقبلة.