عندما دخل ،رئيس الحكومة التونسية، مهدي جمعة مكتبه بساحة القصبة يوم 29 يناير 2014 ، كان الكثيرون لا يتوقعون نجاحه ، ليس فقط لأنه شخصية غير معروفة وبلا ماض سياسي فقط ، بل لأن تحديات عديدة تنتظره عند جلوسه على كرسي رئاسة الحكومة ، فالرجل وصل مكتبه في القصبة وسط " ألغام " اجتماعية واقتصادية لا يعرف متى تنفجر في وجه الجميع ، فقدومه تزامن مع انتفاضة عارمة تعيشها البلاد ، من شمالها الى جنوبها ، نتيجة خيارات خاطئة اتخذتها الحكومة المستقيلة وأشعلت غضب عموم الشعب بالزيادات في الأسعار وفي معاليم الضرائب ممهدة لعصيان جبائي عام في شهر الانتفاضات الشعبية على مدى تاريخ البلاد. إضرابات عديدة منتظرة ، قطاعيا وجهويا ، واحتجاجات مرتقبة قد تكون أبرزها في صفوف العاطلين عن العمل ٠

هذا المناخ الذي وصل فيه جمعة للوزارة الأولى جعلت دوره شبيها بدور رجل الإطفاء الذي يواجه حريقا محتدما بمعدات بسيطة وفي مدة محدودة في الزمن.عشرة أشهر فقط قضاها مهدي جمعة على رأس الحكومة كانت كافية لتدخل الرجل التاريخ بعد أن أدخلته قلوب جزء كبير من التونسيين الذين تمنوا أن ينتقل من رئاسة الحكومة الى رئاسة الجمهورية ٠صحيح أن الرجل وجد دعما كبيرا من الرباعي الراعي للحوار الوطني ، الذي يضم أربع منظمات قوية في البلاد والذي حصنوه بخارطة الطريق التي نفذها وتمكن مع فريقه الحكومي وبتوافق مع كل الأحزاب أن يجعل من سنة 2014 سنة مفصلية في تاريخ تونس ، حفلت بعديد الإنجازات السياسية وتوجت بإقامة ثلاث محطات انتخابية دارت جميعها في مناخ ديمقراطي وأجواء نزيهة وأفرزت برلمانا تعدديا ورئيسا جديدا، وأنهت مرحلة الحكم الانتقالي التي تمططت وهيأت كل الظروف لاستكمال البناء الديمقراطي والانطلاق نحو إنقاذ البلاد مما تردت فيه في اتجاه استعادة نسق النمو وتحقيق الاستقرار والتنمية ٠

جمعة ، الذي جاء الى رئاسة الحكومة بعد اغتيالين سياسيين أسقطا الحكومتين السابقتين تمكن من تقليم أظافر الإرهابيين اذ توفق في قتل وإيقاف المئات منهم وتفكيك شبكاتهم وخلاياهم النائمة محبطا مخططاتهم الجهنمية ومجنبا البلاد السقوط في الفوضى والوقوع في كماشة الإرهابيين ٠ولئن نجح جمعة سياسيا وأمنيا فانه لم يكن كذلك اقتصاديا واجتماعيا ، اذ تواصل تراجع المؤشرات الاقتصادية ولم يتمكن من التحكم في الإرث الصعب الذي خلفته له الحكومات المتعاقبة ، فتراجعت قيمة الدينار وحجم الاستثمار الأجنبي وعجز الميزان التجاري وزادت نسبة الدين الخارجي .

كما لم ينجح جمعة اجتماعيا اذ تواصل الاتجاه التصاعدي للأسعار وتدهورت المقدرة الشرائية للتونسيين ولم تكن ميزانية الدولة قادرة على دفع زيادات في رواتب موظفي الدولة وهو ما جعله يرحل الملف الحارق الى الحكومة المقبلة ولم يتمكن جمعة من حلحلة مشكل البطالة وظلت عديد المشاريع العمومية معطلة ولم يكتب له النجاح في فك عزلة الجهات المحرومة ولم تنجح جهود تنميتها والتقليص من حجم معاناة مواطنيها لتتحول الى بؤر احتجاج وحراك احتجاجي وتهدد بتقسيم البلاد خاصة وأن بعض السياسيين ، وفي إطار حملاتهم الانتخابية ، وظفوا هذا العامل سلبيا ليخلقوا مناخا رافضا للقيادة السياسية الجديدة التي أفرزتها صناديق الاقتراع ٠وفي المحصلة فان جمعة كان تلميذا نجيبا حقق ما كان مطلوبا منه في ظرف وطني وإقليمي صعب ، وكان مع عديد القيادات السياسية البارزة في تونس ، مهندسا للتجربة التونسية المتفردة في بلدان ما سمي بالربيع العربي