لم تجد أي مؤسسة رسمية ليبية بعد أحداث فبراير إجماعا غربيا مثلما وجدته حكومة الوفاق بقيادة فائز السراج من لحظة تشكيلها، باعتبارها جاءت بعد مخاض مرضي عنه من أغلب القوى الكبرى التي كانت لها حسابات خاصة في علاقة بعدة ملفات أمنية واقتصادية، كان السراج ضامنا فيها خلال المشاورات التي سبقت الإعلان عنها في مدينة الصخيرات المغربية بعد اتفاق سياسي موقع من عدد من الأطراف الليبية التي بطبعها لم تكن بعيدة الأفكار بالرغم من تباعد المصالح والأطماع. لكن الإجماع الغربي (باستثناء إيطاليا) لم يكن في كل الأحوال يخفي تململا إقليميا بالنظر إلى العلاقات غير الواضحة لحكومة طرابلس بجماعات الإسلام السياسي التي كشفت نواياها في ليبيا والمنطقة منذ الأحداث التي جرت العام 2011.

الموقف الداخلي من حكومة الوفاق، ليس بعيدا من حيث انقسامه عن الموقفين الإقليمي والدولي، ففي كليهما تأييد وروفض، داخليا التأييد كان غربا من خلال نجاحها في احتواء الاختلافات في طرابلس خاصة تلك المرتبطة بجماعات الإسلام السياسي ذات النفوذ القوي في العاصمة، أما شرقا، فالصورة مكشوفة للجميع حيث لا تعترف الأطراف الماسكة بزمام الأمور بتلك الحكومة ولا تعتبرها شرعية من لحظة المشاورات حولها في مدينة الصخيرات، إلى حدود رفض برلمان طبرق التصويت على منحها الثقة معتبرا أنها لا تلبي طموحات الليبيين في مرحلة حساسة من تاريخ البلاد، وهو الموقف الذي أثبتت الأحداث خلال السنوات الماضية وجاهته على اعتبار أن حكومة السراج كانت "صاحبة الفضل" في منح الضوء الأخضر للمجموعات المسلحة لتكون تحت شرعية حكومته التي بقيت عاجزة على مواجهة انفلاتاتها المتكررة خاصة في العاصمة طرابلس.


اختلاف المواقف الإقليمية يريح السراج رغم فشله

الشيء المؤكد أن السراج ورغم ثبوت قاعدة "خطوتان إلى الوراء ولا خطوة إلى الأمام" التي تبيّن الأداء الضعيف لحكومته منذ تشكيلها، إلا أن الاختلاف الإقليمي (غير المكشوف) حوله جعله في موقع مريح وعرف كيف يكسب بعض النقاط بمنطق "الشرعية الدولية"، رغم أن الحالة المصرية تعتبر الاستثناء من خلال رفض الشقيق الشرقي التساهل مع تيارات الإسلام السياسي التي تعمّق خلافه معها بشكل حاد بعد نجاح الرئيس عبدالفتاح السيسي في تحجيم تهديداتها من خلال الخطوة التي أقدم عليها في يونيو 2013، وإنهاء حكمها بشكل رسمي في بلاده. تلك الجماعات بقيت في ليبيا صاحبة نفوذ معتمدة على "شرعية ثورية" اكتسبتها بعد الإطاحة بنظام العقيد معمّر القذافي من خلال مساعدة مكشوفة من المجتمع الدولي، الذي يتحمل المسؤولية الكبرى عما آلت إليه الأوضاع في ليبيا. وعلى ذلك الأساس كان الموقف المصري محترزا من حكومة الوفاق ومائلا بشكل واضح إلى حكومة الشرق وإلى القائد العسكري القوي فيها خليفة، رغم أن لغة السياسة والدبلوماسية التي تتوخاها الوفاق ومصر لا تكشف عن خلاف واضح للطرفين، خاصة في ظل الزيارات المتكررة للسراج إلى القاهرة أو إلى الدور المصري في المبادرة الثلاثية مع كل من تونس والجزائر.

تونس والجزائر لهما رؤية مختلفة. فالأولى كان لصعود الإسلاميين فيها إلى سدّة الحكم منذ الثورة أصبحت المواقف السياسية فيها تحدّد وفق خياراتهم التي تكون في الغالب متقاربة مع الموقفين التركي والقطري الداعمين علنا لجماعات الإسلام السياسي. وهي في الغالب تبحث عن زاوية الرؤية الأممية للمسائل لتخرج من أي حرج وعلى ذلك كانت تعبّر عن دعمها لحكومة الوفاق اعتمادا على منطق "الشرعية" الذي اختلقته الأطراف الدولية القوية في إطار الحسابات الخاصة وغير المراعية في الغالب للواقع الداخلي المعقّد. الموقف التونسي عبّر عنه رئيس الحكومة آنذاك الحبيب الصيد في مايو 2016، الذي كان أول مسؤول رسمي عربي يزور طرابلس في إطار حملة الدعم لحكومة الوفاق وإعلانه بأن بلاده تقف معها معتبرا أن دورها تاريخيا في إحلال السلام بليبيا، على الرغم من أن العام 2017، كان بداية انفتاح للسياسة التونسية مع أطراف الشرق أيضا في إطار الاستراتيجيا الدولية لتقريب الفرقاء وكان الرئيس الباجي قايد السبسي من بين الذين التقوا المشير خليفة حفتر وطرحوا المبادرة الخاصة لحل الأزمة الليبية (أصبحت بعد ذلك مبادرة ثلاثية).

الجزائر بدورها ليست بعيدة عن الموقف التونسي الداعم لحكومة السراج، حيث كانت للأخير زيارة إلى إليها أياما قليلة بعد تقلده لمنصبه، وأعلن فيها عن دعم جزائري للاتفاق السياسي باعتباره الحل الرئيسي للأزمة في ليبيا، بل إنها رفضت الخطوة التي تم الإعلان عنها من المشير خليفة حفتر عند إعلانها إيقاف العمل بذلك الاتفاق. لكن الفارق أن الجزائريين رغم الميل الذي يتم تصويره إعلاميا نحو طرابلس، لكن أعينها كانت مفتوحة شرقا من خلال لقاءات رسمية عقدت سواء بالجزائر أو البيضاء ضمن استراتيجية عدم القطع حتى مع المختلفين معهم بالنظر إلى الاعتبارات الأمنية على حدودها والتي بالتأكيد للقوة العسكرية الشرقية أهمية كبرى فيها.


القوى الدولية والسراج.. الاستثناء فرنسي


بغض النظر عن عمّا فوجئت به الأطراف الدولية من ضعف في أداء حكومة الوفاق الليبية بقيادة فائز السراج منذ تشكيلها، لكن تلك القوى بقيت محافظة على دعمها له في إطار ما تعتبره السلطة الشرعية المنبثقة عن اتفاق الصخيرات. الحقيقة أن تلك القوى كانت جزءا رئيسيا من هندسة الاتفاق من أجل الإسراع في إيجاد جسمي سياسي يسهّل لها البحث في إمكانيات "الغنيمة"، فالهدف بالتأكيد كان الربح أكثر منه رغبة في استقرار ليبيا، الربح الخاص أمنيا واقتصاديا في علاقة بملفات الإرهاب والهجرة والنفط. في تلك الفترة، الانتظارات التي عقدتها الأطراف الدولية كانت كبيرة، لكن الواقع على الأرض الذي لم يُحسب له حساب، غيّر كل تلك الانتظارات ليهرب الموقف الفرنسي منذ 2017 شرقا بعد تيقنه من اختلال التوازن وعدم قدرة السراج على ضبط الأمور على الأرض.

مظاهر الدعم الدولي للسراج بقي ثابتا طوال السنوات التي أعقبت "الصخيرات"، من خلال مطالبتها الدائمة لتوفير الظروف الملائمة لحكومة الوفاق لتحقيق الاستقرار في الموانئ النفطية، أهمها البيان السداسي المعلن في أغسطس 2016، بين الولايات المتحدة إيطاليا وألمانيا وفرنسا وإسبانيا والمملكة المتحدة الذي كان صكا على بياض لفائز السراج لكسب شرعيته المفقودة على الأقل نسبيا في الداخل.

فالبيان السداسي المذكور أعلن بكل وضوح ضرورة إعادة الإشراف على كل الموانئ النفطية في البلاد إلى من سموها "السلطة الوطنية الشرعية" وهي حكومة الوفاق. صدور الموقف في تلك الفترة بالتأكيد كان بإيعاز أممي ومن المبعوث الأممي آنذاك مارتن كوبلر الذي يعتبر مهندس الاتفاق المستعجل في مدينة الصخيرات.

لكن على خلاف بقية المواقف الدولية، كانت فرنسا استثناء في المعادلة، حيث كان تعاملها مع حكومة الوفاق بمنطق توزيع المواقف، وكانت محترزة منها لكنها بقيت ملزمة بتصدير مواقف متسقة مع المواقف الدولية الأخرى. غير أن الفرنسيين كانوا في الواقع ممدودي الأيدي أيضا إلى شرق البلاد، من خلال مواقفهم الإيجابية من الجيش الليبي ومن قائده خليفة حفتر الذي كانت باريس محطته في أكثر مناسبة في إطار التنسيق في عدة ملفات على رأسها التشاور حول المصالحة الوطنية الذي التقى فيه مع السراج بإشراف خاص من حاكم الإيليزيه إيمانويل ماكرون.

الواقع في علاقة بحكومة الوفاق الوطني أنها بالتأكيد قد تخرج بسجل حافل بالفشل. التسويق الدولي ومحاولة التغطية والإسناد في أكثر من مناسبة، كلها لم تعط صورة إيجابية للسراج في علاقة بالداخل الليبي الذي يحكم بما يعيشه على الأرض والذي لخصته الأحداث التي وقعت في العاصمة منتصف أغسطس الماضي وراح ضحيتها عشرات الأبرياء الليبيين، بالإضافة إلى تواصل سطوة المليشيات وعدم توضح الملفات الاقتصادية للبلاد.