لا يلبث أوار الإرهاب وجماعاته في ليبيا أن يهدأ إلا وسريعا ما يشتعل، ويبدو تعقيده كبيرا مع استمرار الوضع على ما هو عليه وفشل محاولات التوافق وبرود وتراجع الساسة والسياسة، وتتمثل تعقيدات مشهد جماعات الإرهاب في عدد من الملامح منها قدرتها على الانبعاث والتشكل وتغيير الاسماء والرافد والتداخل المشترك، واختلاط الجهادي العنيف بالسياسي عند بعضها قناعا لها، فتحول الإرهابي السابق لوجه سياسي وحزبي ورجل اقتصاد معروف، كما استمرت ميليشيات تتلبب بمقولة الثورة على نظام الرئيس القذافي الراحل متجاهلة فشلها هي الذاتي والثورة الكامنة والظاهرة عليها وعلى ممارساتها وما جرته من خسائر وتكلفة باهظة على الواقع الوطني المتردي.

تظل الارتباكات تسكن المشهد وتحركه، فهل انتهت داعش في ليبيا ام لم تنته بعد، ففي الثالث من نوفمبر الماضي جاءت التصريحات عن محاولتها التجمع في المنطقة الجبلية المحيطة بالمدينة، ولا زالت معاقل التطرف تنشط في العاصمة طرابلس، وتبقى جيوب صغيرة لها في بنغازي، لا تتعدى مربعا سكنيا ، ويخلع الإرهاب على نفسه كل فترة قناعا واسما جديدا في ليبيا، فلا فروق جوهرية بين قاعدة وداعش أو بين ميلشيات تدعي السياسة وأخرى ترفضها، فالجميع يستحل دماء آخريه.

لا زالت العاصمة طرابلس تعاني  من الإرهاب وتنتظر مستقبلاً مجهولاً، ولم يتبقَ في بنغازي إلا مربع سكني واحد، هو سيدي خربيش، يتحصن فيه بقايا المسلحين المنهزمين. ويقع- كما يذكر عبد الستار حتيتة- على مساحة نصف كيلومتر في نصف كيلومتر، قرب منطقتي الصابري وسوق الحوت، " ولا يمكن الاقتراب منه لأن المنطقة شديدة الخطورة، فقد جرى تفخيخ الشوارع والمباني المحيطة بها على أيدي المتحصنين في الداخل. كما جرى حفر أنفاق تحت الأرض يستخدمها المسلحون للتنقل بين مواقعهم والاختباء. وبين وقت وآخر تسمع صوت القذائف الصاروخية وزخات من طلقات الرصاص. ويحدث الأمر بشكل مفاجئ. وحين تحني رأسك وتستعد للفرار، يقول لك مرافقك العسكري: طالما سمعت صوت الرصاص فأنت ما زلت على قيد الحياة"[1]! إن يتأخر التوافق بين القوى الوطنية والعاقلة في ليبيا، يتيح وفقط المزيد من أزمات عميقة وساحات مديدة لجماعات الإرهاب وطيور الظلام.

ملامح مشهد الإرهاب العنيف في ليبيا:

تنشط مجموعات الإرهاب وجماعاته التي تتبادل أدوارها وتتحد في أهدافها في مختلف مناطق ليبيا وإن تراجعت بفضل حركة الكرامة في عدد من المناطق في الشهور الأخيرة، فقد بدا تنظيما الدولة الإسلامية (داعش) وأخرى محسوبة أو على صلات مع تنظيم القاعدة هيمنته على مدن درنة (شرق) وسرت (وسط)، كما كان لهما وجود فاعل في كل من صبراتة (غرب) نجحت قوات الكرامة والفريق حفتر في إزاحتهما عنه، كما نشط في بنغازي (شرق) ثم خرج مضطرا منه تحت وقع ضربات الكرامة، ولم تبق له إلا سيدي خربيش.

أربعة ملامح خطرة لمشهد الإرهاب وجماعاته في لييا:

نرى أن هناك أربعة ملامح لتعقد مشهد الاستقرار واستمرار الإرهاب في يمكن أن نحددها فيما يلي:

 هو استمرار احتفاظ بعض تيارات التطرف العنيف في طرابلس بالغطاء السياسي أو احتفاظ تيارات اندمجت في العمل السياسي شأن الإخوان المسلمين بأذرعها المسلحة! واحتفاظها بروابط عميقة وتنسيقية مع المجموعت الجهادية العنيفة الأخرى.

أما الملمح الثاني، وهو ملمح غريب، يشبه فوضى ليبيا الآن، وهو أن المسميات لا تعني شيئا، فمن كتائب راف الله السحاتي ذات الأصل الإخواني،  خرجت أنصار الشريعة، التي أعلنت حل نفسها، رغم أنها كانت الأم التي تمخض عنها جماعات القاعدة وداعش فيما بعد، وتبدو مجالس الشورى التنسيقية بين قوى التطرف العنيف في ليبيا تعبيرا عن هذا التنسيق الذي يصر على انتهاز فرصة التوحش والفوضى وسقوط النظام في ليبيا، وتعكس  مشهد الاشتعال المستمر فيها رغم برودة الجدل والتوافق السياسي.

مشكلة التصنيف: فقد غدت المصطلحات مع غياب المؤسسات المعيارية والمرجعية وتراجعها دوليا وإقليميا ووطنيا كلأ يملكه الجميع، فالإرهابي يصف الشرعي بصفته والعكس، وتختلف التصنيفات بين الدول والمؤسسات الإقليمية والدولية.

فحسب تصنيف الإرهاب هناك التصنيف الخاص بمجلس الأمن الدولي الذي صنف جماعة أنصار الشريعة في بنغازي ودرنة وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الفرع الليبي كجماعات إرهابية.  والثاني: تصنيف مجلس النواب في طبرق لتحالف وميليشسيات فجر ليبيا الذي شكله خصومهم في طرابلس كجماعات إرهابية، وهو تحالف يضم مجموعات مسلحة من مصراتة والزاوية وطرابلس وغريان وكتائب أخرى في غرب ليبيا يغلب عليها التوجهات الإسلامية. وهو ما يعكس التداخل الغريب المشار له في النقطة الأولى.

 التدخل الخارجي ودعم التطرف: منذ بداية التحرك ضد النظام السابق كان ولاء إمارة قطر وأذرعها الإعلامية لجماعة الإخوان المسلمين وكل المتطرفين في ليبيا، وكان تبنيها ودعمها اللوجيستي للخروج المسلح في بنغازي منذ البداية حتى مقتل العقيد القذافي في 20 أكتوبر 2011، ولا يزال هذا التدخل يزداد صعوبة مع إصرارها على إفشال كل وسائل الحل إفشالا لمعركة حضورها الإقليمي الراغب في التوسع والهيمنة وتجهيز الوكلاء لها، فتنشط في دعم المتطرفين في ليبيا كما في مصر وكما كان في سوريا في وقت سابق.

هكذا يستمر الاستقطاب الحاد المترافق مع حالة السيولة غير المسبوقة وتعدد الفاعلين وانقسامهم على الأرض، وغياب كتلة صلبة لأي تيار سياسي يمكن البناء عليها. الأمر الذي ساهم في تعزيز قدرات المجموعات المسلحة التي تمثل أذرعا عسكرية للفاعلين السياسيين والاجتماعيين المعارضة لعودة الدولة في ليبيا، وتجاوز خسائر المرحلة السابقة.

بل من ميزانية الدولة أحيانا يتمدد غطاء الشرعية على بعض مجموعات الإرهاب في ليبيا، مثالا على  ذلك نشير إلى ما جاء في تقرير ديوان المحاسبة في طرابلس بشأن الميزانيات المسيلة لوزارتي الدفاع والداخلية التي يندرج اسميا تحتها عدد كبير من عناصر تلك المجموعات المسلحة، حيث يشير تقرير ديوان المحاسبة في طرابلس لسنة 2015 أن وزارة الدفاع أنفقت خلال عام 2015 أكثر من 12 مليار دينار من ميزانيتها التي تبلغ أكثر من 21 مليار دينار، كمرتبات لمنتسبيها الذين يزيد عددهم عن 205 ألف منتسب (حسب بيانات الرقم الوطني 2015)[2] وهو رقم ضخم يفوق تعداد الجيش الرسمي منذ عهد القذافي.

 أما عن وزارة الداخلية فقد أشار التقرير إلى أن الوزارة عجزت عن تكوين قاعدة بيانات شاملة بعدد قواها العمومية وبالجهات التابعة لها[3]. وهو ما أثر سلبا على محاولات بناء قطاع أمني فاعل في البلاد. وكن المجموعات المسلحة من التغول على الأجهزة الأمنية ومؤسسات الدولة. وأدى إلى اختلاط الأجهزة الأمنية مع مجموعات مسلحة وهو ما يمكن ملاحظته من خلال إمعان النظر في قيادة عدد كبير من المجموعات المسلحة التي غالبا ما يقودها عناصر من الجيش أو الشرطة، وأعطى أيضا رعاية للعديد من المجموعات الإرهابية وفرصا كبيرة لها.

ويكفي أن نشسير أنه يوجد بالعاصمة أكثر من 24 تشكيل متطرف ومسلح عنيف من أبرزها ما يلي:

- قوة الردع الخاصة وكتيبة النواصي والقوة الثامنة: وهي تشكيلات ذات توجه سلفي يقودها عبدالرؤوف كارة وتتخذ من قاعدة معيتيقة شرق طرابلس مقرا لها وكذلك منطقة سوق الجمعة، وتقوم بدور مساند للشرطة وشنت خلال الشهور الأخيرة حملة اعتقالات واسعة لمن يشتبه بانتمائهم إلى تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) حتى أنها تمكنت من توقيف أكثر من 700 عنصر بسجن معيتيقة شرق طرابلس، قالت إنهم خلايا نائمة من تنظيم الدولة، من بينهم 200 ليبي و500 أجنبي غالبيتهم من تونس[4].

- كتيبة ثوار طرابلس: والتي تحولت إلى قوة الإسناد الأمني في العاصمة، ويقودها هيثم التاجوري وهو في الأصل ضابط شرطة برتبة ملازم، وبدا مطلع عام 2016 مؤيدا لعودة الملكية إلى حكم ليبيا، ولحكومة الوفاق الوطني بقيادة فائز السراج، لكنه على خلاف مع جماعة الإخوان المسلمين والجماعة المقاتلة.

- غرفة ثوار ليبيا: وهي تشكيل مسلح مثير للجدل يقوده اسلاميون متشددون وسبق له خطف البعثة الدبلوماسية المصرية في طرابلس في يناير 2014 عندما احتجزت السلطات في مدينة الاسكندرية أبوعبيدة الزاوي أحد أبرز قيادتها والذي يقود حاليا كتيبة فرسان جنزور.

- لواء الصمود: وهو تشكيل مسلح أعلن عن تأسيسه في يونيو 2015 بقيادة القيادي في فجر ليبيا صلاح بادي ويضم 7 تشكيلات مسلحة كانت ضمن قوات فجر ليبيا.

- كتيبتا غنيوة الككلي وصلاح البركي: الأولى حظيت في بداية نشأتها بدعم من مصراتة لكنها استقلت عنها وهي تسيطر حاليا على منطقة أبوسليم بالمشاركة مع مجموعة صلاح البركي.

وتتقاسم هذه التشكيلات المسلحة منذ عام 2014 السيطرة على العاصمة مع مجموعات أخرى من مصراتة وغريان والزاوية وهي مناطق حضرية، عندما دخلت في تحالف فضفاض لمواجهة خصومهم المتحالفين مع قائد الجيش وثورة الكرامة خليفة حفتر.

لا تبدو نهاية جماعات الإرهاب في ليبيا قريبة، طالما ظلت الدولة والنهج السياسي والايمان بالوطن الجامع بين الفرقاء السياسيين متأخرة، وطالما ظلت الأقنعة السياسية والارتباطات الإرهابية تلف حركات الإسلام السياسي، وبقى البعض في المنطقة يدعم الفصيل دون الوطن! منذ بداية الثورة على نظام القذافي وحتى الآن، ولا زالت الشرعية الدولية لا تملك حسما سواء في ليبيا والموقف من الجماعات الإرهابية فيها أو موقفها من ضرورة استعادة الدولة والوطن، مكتفية فقط بما تنشره المنظمات عن مآس غير مسبوقة للحقوق الإنسانية ترتكبها هذه الميليشيات.

 

[1]  جريدة الشرق الأوسط في 26 نوفمبر سنة 2015 على الرابط التالي: http://bit.ly/2zUOY5N

[2] التقرير السنوي لديوان المحاسبة الليبي في طرابلس عن عام 2015، ص418.

[3] المرجع السابق، ص429.

[4] مصدر في قوة الردع الخاصة بطرابلس