مع إندلاع أحداث 2011 بليبيا التي إنجرّ عنها إسقاط نظام العقيد الراحل معمّر القذافي، شهدت الدولة الليبية حالة من الضعف و الهوان منقطع النظير إذ أصبحت الدولة نتيجة للصراعات السياسية التي تعيش على وقعها عاجزة على إنفاذ القانون حيث صنفها كثيرون أنها أمست أقرب إلى "الدولة الفاشلة"

هذه الظرفية التي عاشتها البلاد، جعلت منها وجهة مغرية للجماعات و التشكيلات المسلحة الموازية للدولة خاصة ذات التوجهات الجهادية الإسلامية منها من يحمل أفكارا سلفية جهادية كأنصار الشريعة و داعش فضلا عن بعض المجاميع الصغيرة الاخرى من بقايا الجماعة الليبية المقاتلة بقيادة محمّد الزهاوي تشكّل تنظيم أنصار الشريعة إثر إسقاط النظام الليبي سنة 2011 حيث يتمتع هذا التنظيم الجهادي الجديد بعلاقات متينة مع السلفية الجهادية في ليبيا و التي تمثل جماعة ظل أنصار الشريعة في درنة بقيادة أبو سفيان بن قومو،  احد سجناء معتقل غوانتنامو سابقا.  وهي  تنظيم دعوي اجتماعي مسلح يهدف لتحكيم الشريعة الإسلامية في ليبيا و تأسس في مايو 2012 بعد الأنفصال عن سرايا راف الله سحاتي التي شاركت في تأسيسها

في سنة 2013، إتجهت أسهم الإتهام للتنظيم بالهجوم على القنصلية الأمريكية ببنغازي في شهر سبتمبر من نفس السنة التي إنتهت إلى مقتل السفير الأمريكي كريس ستيفنز وثلاثة أمريكيين آخرين و أعلن آنذاك تنظيم القاعدة في الجزيرة العربية في بيان أن الهجوم جاء انتقاما لمقتل الشيخ أبو يحيى الليبي أحد قادتها في غارة جوية بطائرة بدون طيار في يونيو/حزيران 2012

 إلا أن الجماعة قد نفت ذلك و قالت على لسان المتحدث باسمها هاني المنصوري " الجماعة لم تشارك في الهجوم الذي استهدف مقر القنصلية الأميركية في خضم الاحتجاجات على فيلم مسيء للإسلام أنتج في الولايات المتحدة"

في ذات السياق، نشر معهد واشنطن لسياسات الشرق الادنى في سبتمبر 2012 تقريرًا، قال الباحث هارون زيلين "ان في ليبيا تستخدم عدد من الجماعات مجموعة متنوعة من اسم "أنصار الشريعة".  وثمة اثنتان من أبرز الجماعات هما "كتيبة أنصار الشريعة في بنغازي" التي يُنظر إليها على أنها المشتبه بها الرئيسي في الهجوم الأخير على القنصلية وأخرى أقل بروزاً وهي "أنصار الشريعة في درنة" بقيادة سجين غوانتانامو السابق أبو سفيان بن قومو.  وكلتا الجماعتين قد تم تأسيسهما عقب موت الزعيم الليبي السابق معمر القذافي لكنهما غير مرتبطتين ببعضهما البعض.  وقد أعلنت "أنصار الشريعة في بنغازي" عن نفسها للمرة الأولى في شباط/فبراير 2012 بقيادة محمد الزهاوي الذي كان في السابق سجيناً في سجن سيئ الصيت يدعى "أبو سليم" في زمن القذافي.  وقد استضافت الجماعة ما تمنت أن يكون أول مؤتمر سنوي في حزيران/يونيو حضره ما يقرب من ألف شخص من بينهم عدد من الميليشيات الأصغر كلهم يدعون الدولة الليبية إلى تطبيق الشريعة.  والأرجح أن بضعة مئات من أولئك المشاركين كانوا من أعضاء "أنصار الشريعة في بنغازي"

يضيف التقرير :"ومثل "أنصار الشريعة التونسيين" كان "أنصار الشريعة في بنغازي" يقدمون أيضاً خدمات اجتماعية حيث قام أفرادها بتنظيف الطرق وإصلاحها وقدموا صدقات خلال شهر رمضان وكانوا مؤخراً يساعدون في توفير الأمن في مستشفى بنغازي.  ورغم أن الجماعة تقر بأنها هدمت الأضرحة والمقابر الصوفية في بنغازي إلا أنها حاولت أن تصوغ لنفسها توصيفاً محلياً بأنها مدافعة عن تفسير صارم للإسلام مع المساعدة في ذات الوقت على توفير الاحتياجات الأساسية للمجتمع.  وبناءاً على تصريحاتها - التي تطورت من تأكيدات أن أفراداً منها كانوا متورطين بشكل فردي في الهجوم إلى إنكار صريح لأي تورط - يبدو أن تنظيم "أنصار الشريعة في بنغازي" قد فهم أنه تخطى الحدود ولذا فهو يحاول إنقاذ سمعته".

من جانب آخر، وجد تنظيم داعش له موطئ قدم في ليبيا بداية من أكتوبر 2014 حيث كان أول إعلان عن وجود تنظيم "داعش"في ليبيا كان عبر شريط فيديو نشر على الانترنت إذ أظهر حشداً من المسلحين التابعين لما يسمى "مجلس شورى شباب الإسلام"في مدينة درنة الساحلية يبايعون التنظيم وزعيمه أبا بكر البغدادي

ويتحدّر مقاتلو "المجلس" من مسلحين قاتلو في سوريا فيما كان يعرف بـ"كتيبة البتار" عام 2012 والتي تكونت في أغلبها من ليبيين عادوا فيما بعد واستقروا في درنة وخاضوا معارك شرسة مع إحدى الكتائب المقاتلة ضد نظام القذافي في المدينة ("كتيبة شهداء أبو سليم") قبل إعلانها الرسمي الخضوع لسلطة البغدادي

وقد أعلن البغدادي فيما بعد قبول ليبيا كجزء من "دولة الخلافة" وقسمها إلى ثلاث "ولايات" شملت برقة (شرق) وطرابلس (غرب) وفزان (جنوب)،  فيما تناقلت تقارير أمنية أسماء مؤسسي الفرع الليبي وهم العراقي أبو نبيل الأنباري (يعتقد أنه قتل في غارة أمريكية على درنة في تشرين الثاني/نوفمبر 2014) والسعودي أبو حبيب الجزراوي واليمني أبو البراء الأزدي

جدير بالذكر بأنه بالرغم من أن التنظيم الجهادي يمثّل وعاءً مجمّعا للمجاهدين إلّا أنه ليس طرفاً واحداً أو وحدة متكاملة تنظيمياً بل هي فسيفساء تختلف من حيث الجهة المُمولة والداعمة لوجستيا . 

فــ"داعش سرت"كان  خليطاً بين داعشيين تونسيين ومصريين  يسود غموض حول الجهات الداعمة لهم،  بينما كانت (داعش) في صبراطة هو تواصل موضوعي لتنظيم إرهابي تونسي كان يٌدعى "شباب التوحيد"أما (داعش) درنة فهي مجموعات ليبية كانت تنتمي لشبكات  تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي أو تنظيم القاعدة المركزي بقيادة أيمن الظاهري،   وتبنت فكر (داعش)،  وبايعتها منذ ظهور البغدادي

خلافا لتنظيم داعش، تعتبر الجماعة الليبية المقاتلة جسمًا غير حديث في الخارطة الجهادية في ليبيا حيث تأسست سنة 1995،  و تعود نشأتها الحقيقية الى سنة 1982 بقيادة  عوض الزواوي و كانت لها أنشطة متطرفة على الأراضي الليبية إذ عملت على اغتيال شخصيات بارزة في النظام السابق  كما نفذت عدة محاولات انقلابية فاشلة لإسقاط النظام سنوات  1986 و1987 و1989

و في تقرير خاص، نشره معهد واشنطن لسياسات الشرق الادنى سنة 2012، أشار الى أن "الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة قد اعتمدت خطة طويلة المدى للإعداد لحملتها العسكرية،  كما اقتنص الكثير من أعضائها فرصة الحرب ضد السوفييت في أفغانستان في الثمانينيات بهدف تعزيز مهاراتهم القتالية.  وهناك خضعوا لتدريبات عسكرية،  وقد نفذت الجماعة طوال فترة التسعينيات عمليات عسكرية ضد النظام الليبي،  منها محاولات عديدة لاغتيال القذافي نفسه غير أنها باءت جميعها بالفشل، وقد توقف تمرد «الجماعة المقاتلة» داخل ليبيا بحلول عام 1998.  غير أنه لم يعلن عن وقف إطلاق النار الرسمي حتى عام 2000.  وبدأت الجماعة المقاتلة في العام 2005عملية المصالحة مع النظام الليبي".

و يضيف التقرير"لكن بحلول عام 2004،  تم اعتقال غالبية قادة الحركة وأعضائها أو حبسهم أو كانوا قد اختبؤوا أو ذهبوا إلى المنفى. وفي العام التالي بدأ النظام الليبي عملية المصالحة ونبذ التطرف بمبادرة من سيف الإسلام القذافي.  واستغرقت المفاوضات بضع سنوات،  لكن في أيلول/سبتمبر 2009،  أصدر قادة «الجماعة المقاتلة» في ليبيا "مراجعات" جديدة للجهاد في شكل وثيقة دينية من 417 صفحة بعنوان "الدراسات التصحيحية".  وأوضحت المراجعات الجديدة أن الكفاح المسلح ضد نظام القذافي غير شرعي من منظور الشريعة الإسلامية ، وفي النهاية تم حل «الجماعة المقاتلة» بشكل فعال عندما تم الانتهاء من المراجعات.  وفي أعقاب الثورة،  قرر العديد من القادة وأعضاء الجماعة إنشاء أحزاب سياسية والمشاركة في العمليات السياسية للنظام الليبي الجديد"

قصارى القول، يعود تنامي الجماعات الجهادية في ليبيا بعد 2011 إلى الحرب الأهلية المعقدة. فالصراع السياسي بين الشرق و الغرب ساهم بشكل كبير في إهدار طاقات أجهزة الدولة بهدر في مواجهة التهديد الناشئ من الجماعات المتطرفة فضلا عن إستعانة بعض أطراف النزاع لهذه الجماعات في صراعها السياسي من أجل الظفر بالسلطة فضلا عن أن الدور الدولي لم يكن حاسما بالشكل المطلوب إذ دعمت الدول الغربية تجربة الإسلاميين في السلطة التي وفرت الغطاء السياسي لتحرك هذه الجماعات و كانت حجة الغرب أن دعم "الإسلام المعتدل" سيحجّم من دور المتطرفين و النتيجة كانت معاكسة تماما